مرت ذكرى سعد معطرة بأريج من الذكريات والعظات البالغات فى حب الأوطان، وفى معانى البذل والفداء، وفى ثورة الثائرين، وحياة الشهداء فى مقعد صدق عند رب العالمين. ثورة 19 هى الثورة الأم التى أنجبت وتخلف عنها ودروس فى كيف تكون الثورة وكيف نجنى ثمار نجاحها وكيف نتخذ منها نوراً ننير به ظلمات الطريق، وعودة إلى هذه الثورة العملاقة التى قادها «بطل الأبطال على مجريات تاريخنا الحديث ابن الأزهر - ابن المحاماة والقضاء ومن قبل ومن بعد ابن مصر البار وزعيمها، والذى - كما قال عنه عملاق الأدب العربى «عباس محمود العقاد» عن سعد باشا زعلول: «إنه تمثلت فيه الزعامة فى أقصى مراميها، وأنه طبق بحق وبصدق كل معانى الحب ما بين الزعيم وشعبه، فقد أحب الشعب المصرى سعد زغلول كما لم تحب أمه أية أمة زعيماً لها أو قائداً، عاش سعد باشا كما كانوا يطلقون عليه فى قلب الجماهير ووقف على طموحاتهم وآرائهم حتى «نبص قلوبهم» استمع إليها واستمعت الأمة قاطبة إليه - ارتبط اسم سعد بمعطيات الطبيعة وأصبح فى نظر المصريين - كل المصريين - جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية - عاش فى ضمائرهم حباً وعقيدة ويكفى كما أجمع رواة التاريخ السياسى «أن سعداً ارتبط بالأرض الطيبة وأصبح جزءاً من أشجارها ونخيلها ووردها وبستانها أليس هو - كما أنشدها القيثارة الشعبية وراوى أشجانها وأفراحها «سيد درويش»: «زغلول يا بلح زغلول» من هنا كانت: والنخل باسقات لها طلع نضيد هى «الرمز الانتخابى لحزب الوفد العتيد». إذا فتحنا كتاب سعد زغلول رأينا كما أشرنا الزعامة الحقة، الكاريزما السياسية فى أبهى صورها وفى أجل وأسمى معانيها، وكما قال عنها عبدالعزيز البشرى فى «المرآة»: «بسطة فى الجسم، بسطة فى العقل الواعي، بسطة فى حديثه وخطاباته الأخاذة فى بلاغة أخاذة فيها جاذبية للجماهير هو الذى وحَّد الأمة فى نسيج واحد، الوطنية المصرية واحدة، المسلم فى عقيدة جنباً إلى جنب مع أخيه القبطى، وكم تبوأ الأقباط مكاناً علياً فى حكومات الوفد المتتاليات ولن تنسى الأمة مقولة سعد عن دماء شهداء ثورة 19 «1919»: «إن رصاص الإنجليز لم يفرق - وهو يرق الثوار - ما بين دماء المسلم أو المسيحى» وحين تختلط الدماء فى هوى الأوطان يكون الخلود والبقاء لسعادة البشر. وحينما كانت تدق أجراس الكنائس ويقف المؤذن يؤذن داعياً إلى الصلاة تختلط الأصوات منادية نحو السماء: إنه البقاء وإنه الخلود وإنه العطاء السامى والرائع لتلك «الوحدة الوطنية» فى علوها وسموقها وخلودها. وأتذكر كما كنا ننادى فى كفاح شباب مصر ضد الملك وضد الإنجليز فى ضوء تعاليم الثورة المصرية الكبرى «ثورة 19»: نموت نموت وتحيا مصر متضامنون على الجهاد فما ترى إلا مسيحياً يؤازر مسلماً هش المقدس للمؤذن داعياً وحنى الهلال على الصليب وسلما الأمة مصدر السلطات قالها سعد فى مواجهة الملك فؤاد، والحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة قالها سعد فى وجه الطغاة. ونحن نذكر ونتذكر معالم شخصية سعد الزعيم، نتذكر معها كل هذه القيم، خاصة وقد أنجبت سعد من ضمير الغيب «ثورة بيضاء هى ثورتنا الحالية ثورة 25 يناير 2011 جاءت لتشطب من تاريخنا المعاصر عهداً أسود بكل اللغات، وها هى مصر - الآن - بقدها وقديدها، وشبابها ورجالها، بعمالها وفلاحيها بعلمائها وشيوخها ومسلميها ومسيحييها، كله على «قلب رجل واحد» تبغى الوصول إلى قطف ثمار هذه الثورة، حقاً إن الرائى يراها «صعبة المنال» للاختلافات الموجودة على الساحة الكبرى للبلاد، ولكن - والأمل قائم - ودم الشهداء ينادينا من عليين، دم الشهداء دين فى رقابنا لولاها - أى دم الشهداء - ما جاء عهد وانتهى عهد.. وسوف تكون الآمال المأمولة لوحدة وطنية ليس هذا فحسب - وإنما أيضاً لوحدة فكرية وسياسية ودستورية وقانونية. مصر فى حاجة إلى همة أبنائها جميعاً حتى تشرق معها شمس الحياة السياسية الكريمة، وتتخذ من دماء الشهداء نبراساً، ومن سير الزعماء نوراً يفرش ضوءه على ظلمات الطريق. أسجل هذه الخواطر استلهاماً من وحى ذكرى الزعيم الخالد سعد باشا زغلول، هو عنوان واضح وبرهان ساطع للزعامة الحقة، ولحب الأوطان. وفى النهاية أذكر - فيما أذكر - حينما كنا نحتفل بذكرى سعد ووقفنا على قبره فى «المنيرة» بجانب «بيت الأمة» وكان فى رفقتنا إبراهيم باشا فرج، ابن سعد والنحاس وطلب منى أن أرتل على قبر الزعيم ما قاله عنه رثاءً شاعر النيل حافظ إبراهيم.. وما قاله حينما امتدت يد الإثم لتطلق الرصاص على الزعيم سعد فى محطة مصر.. ويومها دقت قلوب مصر والمصريين على ما أصاب سعد «قد رماها - فى صدرها - (رأى مصر) من رماكا». الشعب يدعو الله يا زغلول أن يستقل على يديك النيلُ إن الذى اندس الأثيم لقتله قد كان يحرسه لنا جبريل وإن جبريل حارس لمصر يوم مماته، ويوم خلوده، فى مقعد صدق فى جنة رب العلمين. ودائماً وأبداً: إلى لقاء تحت ظل عدالة قدسية الأحكام والميزان.