«ملك» صاحبة أول أوبرا خاصة... و«نادرة» غنت للجيش المصرى فى حرب فلسطين مصر هى دولة الطرب، من هنا تعلم العالم معنى كلمة السلطنة فى الغناء، ومن هنا بدأت الأجساد تتمايل طربًا، بجمل موسيقية تقشعر لها الأبدان، مصر هى قبلة الغناء العربى، هى دولة الملحنين والمطربين، هى رائد التجديد ومنبع المجددين فى الموسيقى والغناء، لم تمر فترة زمنية إلا ويخرج منها أستاذ أو أستاذة يرفع الجميع له أو لها القبعة، هنا ولد رائد وفارس التجديد سيد درويش، وهنا ولد محمد القصبجى وعبدالوهاب والسنباطى، الذين توارثوا الموسيقى والغناء عن الشيخ المسلوب، وسلامة حجازى ومحمد عثمان وكامل الخلعى. هنا أرض الكنانة والمكانة. مصر هى الشريان الذى قام بتغذية العالم العربى بكل حرف وجملة موسيقية، هنا القاهرة التى منحت الجميع شهادة الاعتماد، والارتباط بالجمهور، هنا الإذاعة المصرية التى حملت عبر أثيرها مهمة تقديم الأصوات والنغم الشرقى الأصيل، ومهما ظهرت من زوابع داخل الوسط الغنائى وظهر «الهاموش» و«الناموس»، و«الذباب»، لن يضيع تاريخنا الغنائى، بل إن هذه الزوابع كلما ظهرت تذكرنا بماضينا الجميل. فى حلقتين سابقتين ذكرنا أن مصر فنانة منذ 7 آلاف سنة فى الجزء الأول قدمنا بانوراما عن الفن المصرى بصفة عامة، وريادته، وفى الجزء الثانى خصصناه لتاريخ مصر الغنائى من قدماء المصريين حتى مشايخنا فى العصر الحالى. وفى الجزء الثالث، رغم فيروس الكورونا المنتشر عالميًا، واصلنا تقديم تاريخنا فى عالم التلحين، وما أكثر ما قدمت مصر للعالم العربى من ملحنين، لذلك فالجزء الخاص بالملحنين سوف نواصل الكتابة عنه لعدة أجزاء، حتى نعطى هؤلاء الرواد حقهم الطبيعى. تحدثنا فى الحلقة الأولى «المصرى فنان عمره 7 آلاف سنة» عن ريادتنا بصفة عامة فى الموسيقى والغناء والسينما والدراما والإعلام والمسرح، والأوبرا وأكاديمية الفنون، ثم بدأنا فى الحلقة الثانية نتحدث بتوسع أكبر، عن كل مجال، من المجالات، وتحدثنا فى الجزء الثانى عن الموسيقى من عهد قدماء المصريين، مرورًا بدور الترانيم القبطية، فى الكنائس والموالد الشعبية حتى وصلنا إلى عصر المشايخ فى وقتنا الراهن، وفى الجزء الثالث تناولنا الملحنين من الشيخ المسلوب مرورًا بسلامة حجازى وسيد درويش وعبدالوهاب والسنباطى وزكريا أحمد والقصبجى، وفى الحلقة الرابعة استكملنا مسيرة الملحنين فى النهوض بالأغنية المصرية والعربية، بما يؤكد أننا فى مصر دولة الإبداع والمبدعين، وأن عمر بعض فنانينا أطول من أعمار دولة بأكملها. وأن إبداعهم ربما يكون أكثر تأثيرًا من دول كثيرة، حيث استعرضنا تاريخ الموجى والطويل ومحمود الشريف ومنير مراد، وفى الحلقة الخامسة واصلنا عرض تاريخ دولة الإبداع والمبدعين، تحدثنا عن بليغ حمدى ومنير مراد وكمال الطويل ومحمد الموجى وسيد مكاوى وأحمد صدقى وعلى إسماعيل ومحمد سلطان. مصر الفن والفنانين، أقدم دولة عرفها التاريخ وعرفت الفنون بكافة أشكالها، مصر التى سطرت أهم سيناريوهات العرب، فى السينما والدراما، وأهم من كتبت النوتة الموسيقية وأهم من قدمت عازفين وملحنين وشعراء، مصر الطرب الأصيل والنغم المشبع بالموهبة، مصر تواصل الأجيال، وشموخ الجبال، وكبرياء الإنسان، مصر أقدم لوحة فنية وأقدم فنان. كما قدمنا فى الحلقة السابعة إمام المظلومين فى عالم التلحين، وبعده كامل الخلعى، نقدم مجموعة أخرى ممن ظلمهم وتجاهلهم الإعلام فى مصر. وفى الحلقة 9 قدمنا بعض الذين ظلموا فى عالم التلحين والغناء مثل محمد عثمان وسلامة حجازى وداوود حسنى وأحمد صبرى النجريدى. وفى التاسعة واصلنا تقدم بعض من ظلموا فى الغناء، ربما يكون الأمر لدى أغلب الجماهير متوقف عند أن الغناء فى مصر هو عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم والأجيال التى جاءت بعدهم، لكن قبل هؤلاء أو عاصرهم مطربون كبار فى عالم الغناء مثل فتحية أحمد وعبده الحامولى والمظ ووساكنة بك ونادرة غيرهم. اليوم نرصد مسيرة بعض هؤلاء من خلال الأبحاث والمعلومات التى قدمها البعض للمهتمين بالموسيقى والغناء. واليوم وفى الحلقة ال11 نتحدث عن السلطانة أول نجمة حقيقية عند المصريين، السلطانة هذا اللقب لم يطلق عليها من فراغ بل لأنها كانت سيدة السلطنة، تبهر المستمعين بها بالأداء الذى يصل بهم إلى مرحلة السلطنة والإحساس بكل معنى وكلمة وحرف يخرج من حنجرتها. كانت تجعل الحضور فى حالة زهول من فرط الأعجاب بصوتها. هى منيرة المهدية 1885–1965، وهى أول سيدة تقف على خشبة المسرح فى مصر والوطن العربى وأول مغنية عربية سجل لها اسطوانات موسيقية، وأول مصرية يطلق عليها نجمة بالمعنى الجماهيرى. ولدت منيرة المهدية فى مركز «ههيا» التابع لمحافظة الشرقية فى مصر. توفى والدها وهى صغيرة وتولت شقيقتها رعايتها. بدأت منيرة حياتها الفنية كمطربة تحيى الليالى والحفلات فى مدينة الزقازيق. وذات يوم شاهدها أحد أصحاب المقاهى الصغيرة فى القاهرة، فأعجب بجمال صوتها واستطاع إقناعها بالسفر إلى القاهرة. كان ذلك فى العام 1905 وفى القاهرة، ذاع صيتها ولقبت بسلطانة الطرب. فى صيف 1915 وقفت منيرة المهدية على خشبة المسرح مع فرقة عزيز عيد، لتؤدى دور «حسن» فى رواية للشيخ سلامة حجازى، فأصبحت أول سيدة مصرية تقف على خشبة المسرح وهذا ما زاد الإقبال على المسرحيات وأصبحت فرقة عزيز عيد تنافس فرقة سلامة حجازى. قامت عام 1919 بجولة فنيّة دامت 3 سنوات، قدمت خلالها حفلات غنائية فى بلاد عديدة، لبنان والعراق وسوريا وتركيا وإيران وفلسطين وليبيا وتونس والمغرب. وفى تركيا غنت أمام مصطفى كمال أتاتورك الذى كان من رواد مسرحها فى القاهرة وعندما أسدل الستار صرخ بألا تنزل منيرة، ورفع الستار مرة أخرى لتظل منيرة تغنى طوال الليل وأتاتورك فى حالة من السلطنة. نالت العديد من الأوسمة منها: وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى عام 1960، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، من الرئيس جمال عبدالناصر عام 1961، والجائزة الممتازة فى مسابقة الغناء المسرحى التى أقامتها وزارة الأشغال العمومية عام 1926 والعديد من الأوسمة من ملك مراكش وباى تونس وسلطان لحج وأدرج اسمها فى الكتاب الذهبى الخاص بإيطاليا وتم منحها وسامًا بذلك. كان لمنيرة المهدية نشاط وحس سياسى، حيث اشتركت منيرة فى تحرير المرأة، كما تزعمت حركة وطنية عن طريق مسرحها. وقامت بتأسيس مقهى بحى الأزبكية أطلقت عليه اسم «نزهة النفوس»، وكان كبار السياسيين والأدباء فى مصر وبلاد الشام والسودان يجتمعون فيه وفى بيتها. وقد أطلقت الصحافة اسم «هواء الحرية» على مسرح منيرة المهدية. كما أدت منيرة المهدية دورًا وطنيًا من خلال مسرحياتها وأغنياتها، بجانب دورها السياسى خلال ثورة 1919، فلم يتجرأ الإنجليز على إغلاق مقهى منيرة كمّا فعلوا مع باقى المقاهى والمسارح الأخرى، لما تتمتع به منيرة من قوة شخصية وتأثيرها بالناس من خلال أغانيها وعلاقاتها بكبار رجال السياسة. وفى الوقت الذى كان ممنوعًا فيه التلفُظ باسم الزعيم سعد زغلول، لدرجة أنّ قائد الاحتلال أصدر أمرًا عسكريًا بسجن كُل من يذكر اسم سعد زغلول لمدة 6 أشهر، قامت منيرة بالغناء لسعد بحيلة دونَ أن تلفظ اسمه قائلة: «شال الحمام حط الحمام، من مصر السعيدة لما السودان، زغلول وقلبى مال إليه، اندهله لما احتاج إليه». منيرة الممثلة.. كانت منيرة المهدية تكتب على الأفيشات «الممثلة الأولى» بالرغم من أنها كانت تقوم بدور رجل فى ذلك الوقت ثم انفصلت عن فرقة عزيز عيد وكونت فرقة خاصة بها وقدمت أشهر أعمال الشيخ سلامة حجازى. كما عملت مع أشهر شعراء وملحنى جيلها وكان لها الفضل فى اكتشاف الموسيقار محمد عبدالوهاب. قامت منيرة المهدية ببطولة فيلم «الغندورة» عام 1935 وهو الفيلم الوحيد لها ومن إخراج الإيطالى فولبى. عام 1948 قررت العودة إلى المسرح بعد أن اعتزلت الحياة الفنية ولكنها لم تلق القبول الذى كانت تنتظره. وقد شهدت هذه الفترة صراعًا حادًا بينها وبين أم كلثوم المطربة الشابة وقتها التى فرضت شروطًا جديدة على الساحة الفنية لم تستطع منيرة المهدية مجاراتها فما كان منها إلا أن اعتزلت الفن وتفرغت لهوايتها وهى تربية الحيوانات الأليفة. «سلطانة الطرب» فيلم للمُخرج حسن الإمام جسد حياتها المطربة شريفة فاضل، أثار الفيلم جدلًا حول قصته مما دفع حفيدة منيرة المهدية أن تلجأ للقضاء. فى الغناء كان لمنيرة مئات الأغانى التى انتشرت بشكل كبير منها «أسمر ملك روحى». و«يمامة حلوة» ألحان محمد على لعبه، «حبك يا سيدي»، «يا زهر البساتين»، «ما أقدريش أحب»، «يا ورد يا فل وياسمين». «من كلمة واحدة بتأثر»، «عاشق ومعشوق»، «هويت بخاطرى»، «ما تخافش عليّ»، «امانة يا بلبل»، و«داندورما»، «يا بنت يا بتاعة النرجس»، «جوز الحمام»، «إرخى الستارة» ألحان زكريا أحمد، وهى الأغنية التى حققت شهرة كبيرة وقتها ومازال ينظر إليها على أنها من الأغانى التى أثرت سلبيًا عليها، الحلوة شافت صورتها، أربع خطاب واقفين، ألحان زكريا أحمد، وعلى دول ياما على دول، بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة ألحان محمد القصبجى و«أشكى لمين ذل الهوى»، ألحان محمد القصبجى «يا محلا الفسحة يا عيني»، «يمينك سوق»، «يا منصفين إزاى يكون» ألحان سيد درويش. وكانت من ضمن فقراتها الغنائية تقدم فن (الاسكتش) بمصاحبة الفرقة الموسيقية، ومن أشهرالاسكتشات: (مملكة الحبّ) عام 1931، (المغاربة) عام 1934، (الدجالين) كتابة يونس القاضى ولحن رياض السنباطى، (محكمة الحب) عام 1934 تأليف نعيم وصفى وألحان داود حسنى. كما قامت بإخراج مسرحية كارمن ومسرحية تاييس. من الأسماء التى لمعت فى عالم الغناء المصرى فى بداية القرن الماضى، ملك محمد 1902- 1983: أول مطربة تجمع الغناء والتلحين ولدت فى حى الجمالية، بدأت الغناء عام 1925. عملت فى المسرح الغنائى وانضمت إلى فرقة أمين صدقى المسرحية عام 1926، واشتركت فى روايتين هما (الكونت زقزوق) و(عصافير الجنة)، وقدمت مجموعة من الأوبريتات منها (سفينة الغجر، بنت الحطاب، بلبل). كونت بعد ذلك فرقة خاصة بها للغناء والتمثيل المسرحى وكانت تقدم أعمالها على مسرح البوسفور عام 1930، ومن هذه المسرحيات: الطابور الأول، مدام بترفلاى. أسست أوبرا خاصة بها، عادت للوجود مرة أخرى مؤخرًا عن طريق وزارة الثقافة استأجرت قطعة أرض مملوكة للأميرة شويكار وأقامت عليها مسرحًا أطلقت عليه مسرح «أوبرا ملك» وافتتحته يوم 10 يناير 1941 بأوبريت عروس النيل. ظلت تعمل فى المجال الفنى حتى توقفت نهائيًا عام 1952 بعد حريق القاهرة. من الأصوات المصرية النادرة، هى المطربة الكبيرة نادرة 1906- 1990، ولدت فى القاهرة لأب مصرى وأم لبنانية سافر والدها لأمريكا وتزوج واستقر فيها وتولت عمتها وجدتها لأبيها رعايتها. ظلت تمارس الغناء فى حفلات أسرية ضيقة حتى التقت عازف الكمان سامى الشوا فى إحدى هذه الحفلات وشجعها على احتراف الغناء، ثم درست العزف على العود على يد يوسف عمران، وعلمها غناء الموشحات. أولى حفلاتها كانت على مسرح «رمسيس» فى أوائل الثلاثينيات، وفى 1932 قامت ببطولة فيلم «أنشودة الفؤاد» مع جورج أبيض، ومن أشهر أعمالها غنائياتها الدينية بالإذاعة مثل دعاء «يا رب هيئ لنا من أمرنا رشدًا» وهو من تلحينها. تعد نادرة من أقدم الفنانات اللاتى غنين للجيش المصرى، إذ غنت له أثناء ذهابه لحرب فلسطين عام 1948، كما كانت فى مقدمة من غنى لثورة يوليو عام 1952.