الخطاب الدينى المتطرف سبب من أسباب الإلحاد صدام الحضارات هواجس فكرية وتدافع الحضارات أفضل الدكتور محمد صالحين أستاذ العقيدة والفكرالإسلامى بكلية دار العلوم جامعة المنيا مؤسس مركز التوحيد الإسلامى بمدينة فيسبادن الألمانية يؤكد أن الأمة الإسلامية فى حاجة ماسة إلى العمل على إيقاظ الوعى الجمعى للأمة بضرورة الإصلاح المتكامل الذى يؤدى إلى فهم معنى وسطية الأمة الذى يجعلها أمة شاهدة والتى يجب ألا تكون أمة متفرقة ولا متشرذمة؛ مشيرا إلى أن العلماء عليهم دور أساسي للنهوض بأمتهم . «صالحين» يرى أننا بحاجة إلى إبداع خطابنا الذاتى الإنسانى الجديد المتجدد على جميع المستويات مجالات الدين والروح وفضاءات السياسة والاقتصاد وحول العلوم والتقنيات وأصول التربية والأخلاق وسلوكيات الفرد والجماعات وجماليات الأخذ والعطاءات. «الوفد »التقت المفكر الإسلامى الكبير وهذا نص الحوار: ما المشروعُ الحضاريُّ الذي تحتاجُهُ الأمةُ الآنَ؛ مِنْ وجهةِ نظرِكُمْ؟ هذا مما تتنوعُ فيه أنظارُ المفكرين، وليس لهذا السؤالِ الكبيرِ إجابةٌ واحدةٌ، بل له إجاباتٌ عديدةٌ متنوعةٌ، وهي في مجموعها متعاضدةٌ متكاملةٌ. غيرَ أني أتصورُ- من وجهة نظري - أن يكونَ مشروعُنا الحضاريُّ الراهنُ هو: العملَ على إيقاظِ الوعيِ الجمعيِّ للأمةِ؛ بضرورةِ الإصلاحِ الحتميِ الذاتيِّ المتكاملِ؛ المؤديْ إلى حُسْنِ فهمِ الخصيصةِ الأعظمِ للأمةِ؛ وهي: الوسطيةُ، والذي يثمرُ بدورِهِ إحسانَ قيامِ الأمةِ بوظيفتِها الجوهريةِ؛ وهي: الشهادةُ على الناس (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) الميزة المتفردة للأمة؛(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...)الوظيفة العظمى للأمة.(البقرة:143). فالوعيُ بالخصيصةِ الأبرزِ لأمةِ التوحيدِ؛ الوسطيةِ: هو الذي يجعلُ مِنَّا أمةً متفردةً في كلِّ شيءٍ؛ عقيدةً، وشعائرَ، وأخلاقًا، وحضارةً، وثقافةً، ومِنْ ثَمَّ: يؤهلُنا هذا الوعيُ العميقُ: إلى القيامِ بوظيفتِنا الكُبرى: الشهادةِ على الناس، وقدْ كانَ هذا واقعًا في دنيا البشرِ؛ لمدةٍ تقاربُ سبعمائةِ عامٍ، مُنْذُ حوالي ثمانيةِ قرونٍ خلتْ؛ حِيْنَ كانتْ معاييرُ أمةِ الإسلامِ هي معاييرَ التكريمِ الإنسانيِّ، والتقدمِ الحضاريِّ! والوعيُ بوظيفةِ الأمةِ؛ الشهادةُ على الناس: يجعلُ منا أمةً محترمةً؛ تحترمُ نفسَها، وتُجبرُ غيرَها على احترامِها.. لَكْنْ: كيف، ولماذا؟ لأنَّ الأمةَ الشاهدةَ لا يُقبلُ منها أن تكونَ مُعْوَزَةً، فضلًا عن أن تكون متسولةً، بَلْ يجبُ أن تكونَ أمةً مكتفيةً، وحبذا لو كانتْ أمةً مًحسنةً (لديها فائضٌ تُحسن به على غيرها)، وهنا نتساءلُ بمرارة: هَلْ وصولُنا إلى نموذج الأمم المكتفية؛ كالصينِ والهندِ: أمر مستحيل؟! ولأن الأمةَ الشاهدةَ لا يُقبلُ منها أن تكونَ أمةً متفرقةً بددًا، ولا متشرذمةً عددًا، بلْ يجبُ أن تكونَ أمةً متوحدةً، متعاضدةً، متكاملةً، متعاونةً على البر والتقوى، وهنا نتساءلُ بحقٍّ: هَلْ نموذجُ الاتحادِ الأوروبيِّ مِنَّا ببعيدٍ؟ هلْ يستحيلُ علينا أن نحذو حذوه؟! هذا هو تصوري المُبسط للمشروع الحضاري الذي ينبغي على من بيدِهم مقاليدُ الأمورِ أن يضطلعوا به، في هذه الآونة التي نُواجِهُ فيها تحديَ الوجودِ المصيريّ؛ للإنسانِ، والحياةِ! تَشْغَلُ قضيةُ توحيدِ الصف الإسلامي حيزًا كبيرًا من اهتمام العاملين في الحقل الإسلامي، فما الأسسُ التي يجبُ أن تقومَ عليها الوحدةُ بين الاتجاهاتِ الإسلاميةِ؟ في تصوري: هو أساسٌ واحدٌ: (تعديلُ بوصلة الأولويات)، وهو أساسٌ مبدئيٌّ ذو دعامتين: الدعامةُ الأولى: حتميةُ الالتزامِ بالثوابتِ والأصولِ؛ وهي متجذرةٌ، وقليلةٌ، ومحددةٌ. والدعامةُ الثانيةُ: وجوبُ القبول الإيجابيِّ بالتنوعِ في المستجداتِ والفروعِ؛ وهي قريبةٌ، وكثيرةٌ، ومتجدّدَةٌ. فالدعامةُ الأولى تتمثلُ في: توحيدِ الله تعالى؛ المنافي لكلِّ غَبَشِ الشرك، والجمعِ بين إعمارِ عالمِ الشهادة، مع الإيمانِ الجازمِ بعالمِ الغيبِ، والاعتقادِ الراسخِ في الوحيِ الربانيِّ؛ المتمثلِ في الإيمانِ بالرُّسلِ والرسالاتِ؛ التي خُتِمَتْ بإمامِ المرسلين؛ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبالقرآنِ العظيم، فيصبحُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم هو تمامَ القدوةِ، وتصبحُ الرسالةُ هي منبعَ الدساتير، فهذهِ هي الأصولُ التي لا نزاعَ فيها، ولا يستقيمُ أن تتوحدَ تياراتُ الأمةِ إلا عليها، وإلا من خلالِها، وهي المعاييرُ الحاكمةُ لوحدةِ الشعوبِ والأنظمةِ؛ فضلًا عن التياراتِ والمذاهبِ. وأما الدعامةُ الثانيةُ: فهي الأريحيةُ الفكريةُ النظريةُ، والسعةُ العمليةُ التطبيقيةُ: في قبولِ التنوعِ؛ الثقافيِّ، والعرقيِّ، والفقهيِّ، والتربويِّ والفكريِّ، والسياسيِّ، والعُرفيِّ، والاقتصاديِّ، والاجتماعيِّ. فإذا ما تَرَسَّخَتْ هاتانِ الدعامتانِ: تَكَوَّنتْ من مجموعِهما السماتُ الحضاريةُ المعاصرةُ للأمةِ الوسطِ، الشاهدةِ، وإلا بقي التشرذمُ، والتفرقُ، والتناحرُ، والتدابرُ، والتشاحنُ، والتنافرُ، والتقاتلُ ... إلخ، هو سيدَ الموقف، وترتبَ على ذلك: السقوطُ الحضاريُّ، والاضمحلالُ الثقافيُّ، والضعفُ السياسيُّ، والترديِ الأخلاقيُّ، والانهيارُ الاقتصاديُّ، والتفككُ الاجتماعيُّ، وانتقلنا من الوسطِ إلى الطرفِ، ومن قمةِ الشهداء على الناس؛ جميعِ الناس، إلى سفحِ المشهود علينا من الناسِ؛ جميعِ الناسِ! ما الدورُ المنوطُ بالعلماءِ خاصةً، وأبناءِ الأمةِ عامَّةً؛ للنهوض بالأمة الإسلامية؟ إن دور العلماء (جميع العلماء) - من وجهة نظري- يتمثلُ في مثلثٍ ذيْ ثلاثةِ أضلاعٍ: الضلعِ الأولِ: أن يكونوا عَنْ يسارِ السلطةِ السياسيةِ؛ أيًّا كانتْ توجهاتُها؛ لديمومةِ النصحِ، والإرشادِ، والتقويمِ، والتذكيرِ، بل: الإنذارِ إذا لَزِمَ الأمرُ، وينبغيْ على السلطةِ السياسيةِ: أَنْ تحرصَ على الحفاظِ على هذا المكانِ، وهذهِ المكانةِ للعلماءِ؛ لأنَّ هذا الحرصَ هو الضمانةُ الوثقى لبقاءِ الرقابةِ الوطنيةِ حيةً نابضةً؛ يتمتعُ أصحابُها بالحريةِ الواسعةِ المسؤولةِ: فلا يخشون من الجهرِ بكلمةِ العلمِ؛ تلكمُ التي تُثني على الصوابِ، وتدعمُ الاستقامةَ، وفي الوقتِ نفسِهِ: تُحَذِّرُ من الخطأِ، وتُقَوِّمُ المُعْوَجَ، والتي يتمتعُ أهلوها بالتكريمِ: فلا يحتاجونَ إلى تركِ ثغورِ العلمِ؛ ليَسُدُّوْا احتياجاتِهم المعيشيةَ والمِهْنيةَ، بَلْ هُمْ متفرغونَ لترسيخِ المنهجِ العلميِّ في دولابِ الحياةِ؛ للحكوماتِ، والشعوبِ؛ على حدٍّ سواء! وإنَّ الدولَ المتقدمةَ لشديدةُ الحرصِ على تفريغِ علمائِها - على تنوع تخصصاتِهم- لمهامِّهِمُ المقدسةِ، وأشدُّ حرصًا على منحِهِمْ حريةَ البحثِ، وحريةَ الكلمةِ؛ لأنهم أحقُّ بها وأهلوها، والسلطةُ الوطنيةُ المخلصةُ لا تألوا جُهدًا في استطلاعِ آراءِ علمائِها في كُلِّ خطوةٍ تخطوها، في سبيلِ رُقِيِّ الأوطانِ، وتدعيمِ نهضتِها! والضلعِ الثاني: أَنْ يكونَ هؤلاءِ العلماءُ - على تكاملِ تخصصاتِهم- عن يمينِ المثقفين؛ الأمناءِ على ضميرِ الأمةِ؛ لديمومةِ دعمِهم، وتقويتِهم، وشدِّ أزرِهم، والإلحاحِ عليهم بالمُضي في سبيلِ ترقيةِ الأمةِ، وإنهاضِها؛ لأن المثقفينَ هُمْ همزةُ الوصلِ بينَ جفافِ العلمِ من جهةٍ، والعقولِ الجمعيةِ العفويةِ للقواعدِ الشعبيةِ العريضةِ من جهة أخرى، فالمثقفون الوطنيون هم الذين يعيدونَ إنتاجِ العلومِ كلِّها؛ في هيئةٍ مقالٍ أدبيٍّ، أو قصةٍ قصيرةٍ، أو روايةٍ طويلةٍ، أو مشهدٍ تمثيليٍّ، أو مسرحيةٍ حيةٍ، أو قصيدةٍ نابضةٍ، أو صورةٍ مرسومةٍ، أو شعارٍ منحوتٍ بحرفيةٍ عاليةٍ، أو حوارٍ صحفيٍّ يسبرُ أغوارَ العلمِ بلغةٍ قريبةٍ، ومفرداتٍ عصريةٍ مفهومةٍ. يفعل المثقفون كُلَّ ذلكَ: تقريبًا لجهودِ العلماءِ المتخصصينَ، إلى أذهانِ عامةِ الناسِ البسطاءِ، أو حتى المهنيينَ مِنْ غيرِ المتخصصينَ، وجذبًا للشبابِ الواعدِ؛ لينضمَ مَنْ شاءَ منهم بعد حينٍ: إلى كوكبةِ العلماءِ، أو ينحازَ مَنْ شاءَ منهم إلى طليعةِ المثقفينَ، أو يستفيد - مَنْ شاء منهم أن يبقى مكانَه لا يبرح ثغره- مِنْ ثمرةِ عقولِ العلماءِ، أو ثمرةِ إبداعِ المثقفين، أو كلتيهما؛ في مجالِهِ المِهْنيِّ، أو حقلِهِ التقنيِّ، أو ممارستِهِ المعيشيةِ، أو سلوكِهِ الفرديِّ، أَوِ الجمعيِّ. والضلعِ الثالثِ (القاعدة): أَنْ يكونَ هؤلاءِ العلماءُ في الصدارةِ؛ أمامَ شعوبِهم الكادحةِ؛ قدوةَ صمودٍ، ومنارةَ هدايةٍ، ومشعلَ حضارةٍ؛ صبرًا، ومصابرةً، ومرابطةً، وتقوًى؛ بحكمةٍ لا تستخفُّها الأهواءُ، وإيثارٍ لا تُزعزعُهُ الشهواتُ، ومُناصحةٍ لا تُحبطُها المكائدُ، ونزاهةٍ لا تُغويها زخارفُ الزعامةِ، واستقامةٍ لا تلتوي بها سُبُلُ الانحراف، وصلابةٍ لا تلينُ عريكتُها إزاءَ الشدائدِ الكاشفةِ. حَيْنَ يقومُ العلماءُ بهذهَ الأدوارِ الثلاثةِ؛ إزاءَ السلطةِ، والمثقفينَ، وجماهيرِ الأمةِ: سيجنونَ الاحترامَ والتقديرَ مِنْ الجميعِ، وسَتَعْرِفُ لهمُ الأجيالُ قَدْرَهُمْ ومكانتَهم، وسيلتفُ حولَ محرابِهمْ كُلُّ وطنيٍّ صادقٍ؛ حاكمًا كانَ، أو محكومًا، مثقفًا كانَ أو عامَّيًّا، ويومئذٍ يفرحُ المخلصون بنهضةِ أوطانِهم، ورُقيِ بلادِهم، ورفعةِ مكانتِهم في أنظار شركائِهم في هذا الكونِ، وما ذلك علينا ببعيدٍ! أما دورُ عمومِ الأمةِ: فهو أن يكونوا خلفَ علمائِهم؛ مؤيدينَ ومقوِّمين، ومبدعينَ ومتبعينَ، ومُنَظِّرِيْنَ ومُطَبِّقِيْنَ، لا يَنْفَضُّوْنَ عنهمْ عندَ السراءِ، ولا يتخلَّوْنَ عنهم عندَ الضراءِ، ولا يتنكرونَ لجهودِهم بعدَ الغنيمةِ، ولا يظنونَ أَنَّ دورَهُمْ جزئيٌّ، أو مرحليٌّ، أو مؤقتٌ، بَلْ هو دورٌ كليٌّ متكاملٌ مستمرٌّ، وجميعُ التجاربِ الناجحةِ حولنا (وليكن نموذجُنا في اليابان وكوريا وسنغافورة) كانَ مِنْ دعائمِ نجاحِها: ثقةُ الشعوبِ بعلمائِها، ودعمِها لهم، ومحافظتِها على مكانتِهم، وسيرِها - على بصيرةٍ خلفهم - وعدمِ القبولِ بأدْنى مساسٍ بحقوقِهم المعنويةِ، أو الأدبيةِ، أو الماديةِ! هل نحن بحاجة إلى تجديد خطاب ديني راسخ بالمعنى الاصطلاحي، أم أننا بحاجة إلى خطاب جديد، أو خطابات جديدة؛ تنطلق من الأفكار، وعلاقتها بالواقع، لا من الماضي؟ في تصوري المتواضعِ: أننا بحاجةٍ ضروريةٍ ووجوديةٍ إلى إبداعِ خطابِنا الذاتيِّ الإنسانيِّ، الجديدِ، المتجددِ؛ على جميعِ المستوياتِ: مجالاتِ الدينِ والروحِ، وفضاءاتِ السياسةِ والاقتصادِ، وحقولِ العلومِ والتقتنياتِ، وأصولِ التربيةِ والأخلاقِ، وسلوكياتِ الفردِ والجماعاتِ، وجمالياتِ الأخذِ والعطاءاتِ. إنَّ خطابًا دينيًّا - كما يسمونه - يُهَوِّمُ في الفراغ؛ غيرَ متسلحٍ بالتطبيقاتِ العمليةِ الواقعيةِ الماديةِ في دنيا الناسِ: لهو خطابُ إدانةٍ لأصحابِهِ، بدلَ أن يكون خطابَ هدايةٍ لمن يُوَجَّهُ إليهم؛ لأنَّ عملَ فردٍ في ألفِ فردٍ خيرٌ من قولِ ألفِ فردِ في فردٍ؛لذلكَ جاءتِ القاعدةُ القرآنيةُ حاسمةً: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)«الصف:3». وإنَّ خطابًا ثقافيًّا يتجاهلُ الواقعَ الماثلَ، ويدغدغُ العاطفةَ بأوهامٍ خرقاءَ، ولا يحافظُ علصف:لى الهويةِ القوميةِ مِنَ الاستلابِ الحضاريِّ الغازي، ولا يأْبَاهُ بضياعِ اللغةِ العربيةِ، ولا يجاهد دون تقزمِها؛ لحسابِ اللغاتِ الأجنبيةِ، ولا يقفُ حائطَ صدٍّ منيعًا أمامَ الهجماتِ الشرسةِ التي تستهدفُ رُوْحَ الأمةِ الوجدانيَّ، وعقلَ شبابِها الجمعيَّ: لهو خطابٌ يُوجبُ تنحيةَ أهلِهِ، وإزاحةَ القائمينَ عليه، واستبدالَ أناسٍ ذوي ضميرٍ حيٍّ، وانتماءٍ راسخٍ، ويملكون خارطةً ثقافيةً حيةً وفعّالةً؛ بهؤلاءِ المغيبينَ، أو الكسولينَ، أو فاقدي نبضِ الحرارةِ الثقافيةِ الوطنيةِ! ولنقلْ هذا كلَّه: في شأن الخطاب: السياسي، والعلمي، والتعليمي، والرياضي، والاقتصادي، والعسكري، والتخطيطي ... إلخ، فالخطابُ الجديدُ المتجددُ ليسَ قاصرًا، ولا مقصورًا على الخطابِ الدعْوي الإسلاميِّ، بَلْ هو شاملٌ لكلِّ الخطاباتِ، في سائرِ مناشطِ الحياةِ؛ بما في ذلك: الخطابُ الروحيُّ المسيحيُّ، واليهوديُّ! ما الصفات التي يجب أن يتسم بها العالِمُ المُجدِّدُ؛ الذي يواجِهُ دعاةَ الانغلاقِ؟ ما دام عالمًا مشهودًا له بالعلم، مُجَدِّدًا معروفًا بمسعاه التجديدي: ففي تصوري أنه يحتاج إلى سمةٍ واحدةٍ، لا ثانيَ لها؛ وهي: سعةُ الأفقِ! نَعَمْ، سعةُ الأفقِ؛ التي تستبينُ في : الإقرارِ بوجوبِ التنوعِ في الفروعِ غيرِ المتفقِ عليها؛ مقاربةً بين المتغايريْنِ، وتوسعةً لدوائر التعاونِ على البرِّ والتقْوَى. التوسعةِ في مواطنِها؛ إعمالًا لمرونةٍ محسوبةٍ، وطمرًا لخلافٍ مفَرِّقٍ، وإماتةً لتنازعٍ مذمومٍ، وإتاحةً لحريةِ الحركةِ واتساعِها، وإحياءً لرشاقةِ الفكرةِ وإبداعِها، وعمقِ النظرة واستشرافِها، وأخذِ العِبرة وتطبيقِها، فما مِنْ رشيدٍ يتبنى التضييقَ النظريَّ أوِالعمليَّ، ولديه فرصةٌ للتوسعةِ المعنويةِ في الأفكارِ، أو التوسعةِ العمليةِ في التطبيقاتِ، وإِنَّ الكائناتِ غيرَ الآدميةِ لتعملُ بدأبٍ على التوسعةِ على أنفسِها، وعلى الآخرينَ، فأجدرُ بالإنسانِ المكرَّمِ العاقلِ أَنْ يسلكَ هذا المسلكَ، ولا يسدُّ الأفقَ على نفسِهِ، أو على الآخرينَ؛ بالتضييقِ في مواطنَ، ومواقفَ: تحتملُ الرحابةَ والسعةَ والبحبوحةَ! الشهادة بالدراية؛ للمتخصصينَ مِنَ الهيئاتِ والمؤسساتِ والأفرادِ، وإسنادِ مهامِّهم إليهم، وليسَ إلى غيرِهم، دونَ أدنى مراوغةٍ في ذلكَ الواجبِ المقدسِ؛ اتساقًا مع الذاتِ، وتقديمًا للمصلحةِ العامةِ، واعترافًا بالفضلِ لأهلِهِ، واحترامًا لذوي التخصصاتِ الدقيقةِ. التمسكِ بنهجِ التيسيرِ في مواطنِهِ، وبضوابطِهِ؛ لأن اليسرَ عنوانُ الدينَ، وشعارُ الوطنيةِ، ومنهجُ العلمِ، ولَنْ يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبَهُ الدينُ وقهرَه، ولن يُشادَّ الوطنَ أحدٌ إلا نبذَهُ الوطنُ وطردَه، ولن يشادَّ العلمَ أحدٌ إلا فضحَهُ العلمُ، وهتكَ سِتْرَه، ولن يتشدَّدَ أحدٌ في مواطنِ التيسير إلا نَفَرَ منه العامةُ، فضلاً عن الخاصة، وعزلُوْه، واتهموه بضيقِ الأفقِ، وفرُّوْا مِنْهُ فِرارَ السليمِ مِنَ الأجربِ! هَلْ للخطابِ الدينيِّ المتطرفِ دورٌ في بروز ظاهرة الإلحاد؟ نعم بالتأكيد، لَكِنَّ دورَهُ في هذه القضية بالتحديد دورٌفرعيٌّ، وقليلٌ، وليس ذا تأثيرٍ عريضٍ؛ من وجهة نظري. إن الشخص الذي يُلحد؛ لأنه تلقى خطابًا دينيًا ذا صبغة غالية، وتوجه غير وسطي (متطرف) من اليسر بمكانٍ أن تعود إلى قلبه بشاشة الإيمان، وإلى عقله نصاعة الإسلام: بمجرد أن يعرف أن هذا الخطاب خارجٌ عن حدود الأصالة الإسلامية؛ التي لا تقرُّ غلوًا، ولا تتصالح مع عنف معنوي أو مادي، ولا تخضع لأهواء المتشددين ولا المنفلتين على حدٍّ سواء؛ وإنما يُعْرَفُ الناسُ باتباعِهم الحقَّ، ولا يُعْرَفُ الحقُّ باتباعِ أناسيٍّ محددون إياه! ما موقفُكم من صدام الحضارات الذي قال به مفكرون غربيون؟ وهل هو حتم مقضي به، أم مجرد هواجس، لا ترقى إلى درجة اليقين؟ إني لأقفُ من مثل هذه الدعوى موقفَ الرافضِ، الغضوبِ؛ لأنها دعوى ضد الفطرة الربانية، وضد الإنسانية المتحضرة، وضد طبائع الأشياء. وهي- في تصوري- دعاوى ناجمة عن هواجسَ فكريةٍ، تُغذي أنظمةً سياسيةً عُنصريةً، أو تُغذيها أنظمة سياسيةٌ عنصرية، يرادُ لها أن ترقى إلى درجة اليقين؛ لتكون غطاءً مزيفًا تسترُ بها التحالفاتُ المهيمنةُ عوراتِها الإنسانيةَ، وهي تسرقُ حاضرَ شعوبٍ مستضعفةٍ، وتقتلُ مستقبلَها. والصواب - أو البديل الحضاري الأنسب - هو: أن نستبدل بصدام الحضارات وتصارعِها: تدافعَ الحضارات، وتكاملَها! ومعنى التدافع هنا: التنافسُ في إثبات الذات، تنافسًا لا يضيقُ ذرعًا بنجاح الآخرين، ولا يَغمطُهم ميزاتِهم، ولا يبخسُهم حقَّهم، مع جوازِ منحِهم بحسابٍ، ومنعِهم بحكمةٍ، والأخذِ عنهم بمنهجية، والتكاملِ معهم بِرُوْحِ التنافسيةِ الشريفةِ، فلا عداوةَ تدومُ، ولا صداقةَ تُخلَّدُ، والمصالحُ الحقيقيةُ هي أساسُ العلائقِ الناجحة الظافرة! أخيراً هناك من يربط بين الدين والتعصب، وبين العلمانية والتسامح، فما رؤيتكم؟ نعم، هناك من يفعلُ ذلك، وهو إِمَّا معذورٌ؛ لوقوفِهِ مشدوهًا محسورًا عند ممارسات شاذة من قِبَلِ بعضِنا؛ فيجبُ أن نُزيلَ عذرَه، ونُقيمَ له الحجةَ على عكس ما يعتقدُ، ونُظهرَ له المحجةَ بحقانيةِ ما لدينا، ونُرسخُ عنده قاعدةً حاكمة: أن الشاذَّ لا حكم له؛على مستوى الحِقب، والمؤسسات، والجماعات، والأفراد، وأن العِبْرَةَ إنما تكون من خلال حقانية المنطلق أو بطلانه، وليس من خلال مخالفة فيالق لأحكام المنطق، والخروج عن ثوابته؛ مهما بلغتْ سطوتهم في مكان ما، أو زمان ما، أو ظروف ما؛ لأن الكثرة والقلة: مقياسٌ للطبيعيات، وليست مقياسًا للإنسانيات، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين! وإما أن يقوم بهذا الربط الظلوم: مُغْرِضٌ: فيجبُ أن نكشفَ غرضَهُ، ونبينَ زيفَ رأيه، وندحضَ أباطيلَه، ونُجابَه شبهاتِه؛ كل ذلك بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. وما أيسر أن نفعل ذلك: حين نجره بنعومة وسلاسة خارج دائرة الإسلام، ونضعه أمام ممارسات جميع أصحاب الملل، والنِّحَل، والمذاهب؛ الإلهي منها، والوضعي -وبلا استثناء- ليواجه حجم التناقض الأضخم بين النظريات المبدئية الراقية؛ التي تدعو إلى إحقاق الحق، وترسيخ الخير، وإشاعة الجمال، وبين التطبيقات الواقعية الواسعة؛ التي تدعو إلى إحقاق الباطل، وترسيخ الشر، وإشاعة القُبْح، فإن ارتضى ساعتها أن يُبَرِئَ هاتيكَ المبادئَ مِنِ انتهاكاتِ مدعيها - وهو لابد فاعلٌ-: فليفعلْ ذلك مع الإسلام، وإلا فهو التمييزُ الغشومُ، والحُكم الظلوم، والقناعات الزائفة؛ التي لا يسندها دليل، ولا يقوم عليها برهان! «صالحين » فى سطور من علماء الأزهر الشريف أستاذ العقيدة والفكر الإسلامى بكلية دار العلوم جامعة المنيا. أستاذ الدراسات العليا بكلية القرآن الكريم بجامعة الأزهر الشريف. مؤسس مركز التوحيد الإسلامى بمدينة فيسبادن فى ألمانيا ومديره الأسبق. عضو مؤسس فى المجلس الفقهي بالراين ماين فى ألمانيا. صاحب نشاط إعلامى واسع فى مجالات الدعوة والثقافة الإسلامية. مراجع خارجى بالهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد. نائب رئيس مجلس إدارة مركز المخطوطات وتحقيق التراث بجامعة المنيا ومديره السابق .