«الكنافة».. حروف برزت فى سماء حلوى الشهر الكريم، لاختلافها عن باقى الحلويات، فهى تتكون من خيوط عجين، يضاف إليها السمن والسكر والمكسرات، وتعد من الحلويات الدارجة فى جميع الفصول، بينما يكثر تحضيرها فى شهر رمضان، واستمرت فى مسيرتها على مدار أكثر من ألف عام، عبر العصور المختلفة الفاطمى والأيوبى والمملوكى والعثمانى والعصر الحديث حتى يومنا هذا، حتى أصبحت رافداً للحيوية وتعويضاً للطاقة عقب نهار الصيام الطويل. تشنافة والكنافة «من تشنافة للكنافة».. معناها اللغوى تعنى الستر أو الحماية أو الظل أو الرحمة، أى إنها تحمى الصائم من ويلات الجوع، تعود أيضاً التسمية إلى اللغة الشركسية ويطلق عليها اسم تشنافة مكونة من كلمتين «تشنا» تعنى البلبل «وفه» تعنى لون أى كنافة تعنى لون البلبل، والكنافة ثلاثة أنواع الأول يُسمى شعر وذلك لخيوط الكنافة الرفيعة تماماً مثل الشعر، وهو الأشهر لربات البيوت، والثانى كنافة يدوى وهى التى تعتمد على الطريقة التقليدية من خلال الوعاء ذى الثقوب ويُطلق عليها كنافة بلدى، أما النوع الثالث والذى تُستخدم فيه الآلة ويُطلق عليها كنافة ماكينة، كما أنها تتزعم المشهد فى المرتبة الأكثر مبيعًا على مدار شهر رمضان بأكمله، وفى الغالب فإن أصحاب محلات الكنافة توارثوا هذه المهنة عن الأجداد، فهم يستعدون لشهر رمضان ببناء الفرن من الطوب والأسمنت والجير، وهو ما زاد الطلب فى رمضان على الكنافة اليدوية أكثر من الكنافة الآلية، لأنها خفيفة على المعدة وهو ما يناسب الشهر الكريم. أغانٍ وشعر فى العصور القديمة خُصصت لها أغانٍ منفردة منها أغنية «كنافة وقطايف» التى غناها الملحن والمطرب سيد إسماعيل، كما وردت فى أشعار ابن الرومى، كما برع الشاعر المصرى أبوالحسين الجزار الذى يصنف من شعراء العصر «المملوكي»، فى وصف الكنافة فى شعره واهتم بها فقال «سقى الله أكناف الكنافة بالقطر– وجاد وليها سكر دائم الدر– وتبا لأوقات المخلل إنها – تمر بلا نفع وتحسب من عمري»، وقيل أيضاً إن الجزار هو أول من تغنى بالكنافة، فعلياً ورسخ صورتها فى الشعر العربى، فقال «وما لى أرى وجه الكنافة مُغضباً – ولولا رضاها لم أرد رمضانها – عجبت لها من رقة كيف أظهرت – على قد صد عنى جناحها – تُرى اتهمتنى بالقطايف فاغتدت – تصُدُ اعتقاداً أن قلبى خانها – ومُذ قاطعتنى ما سمعت كلامها – لأن لسانى لم يُخاطب لسانها»، ويبدو جلياً أنه يرسم صورة مضحكة تحاكى الكنافة بالمحبوبة، التى غارت من ذهابه إلى القطايف وإغفاله لها بل اتهمته بالخيانة، ويخبرها أنه على عهده وحبه مخلصاً لمحبوبته الكنافة. أحمد الكنفانى والطب ويقول المؤرخون إنه برع الكثيرون على مر العصور فى صنع الكنافة، ومنهم السيد أحمد الكنفانى، التى ترجع قصته، لرجل بدين يبيع الكنافة عند المتولى ويلبس قفطاناً وعمة من غير جبة واشتهرت كنافته بالجودة، واشتهر أيضاً بأن لديه دواء يشفى الإجزيما والقوبة وحدث أن كان خادماً لدى أحد الأطباء الكبار أصيب بالإجزيما واشتد عليه المرض فوصف له العلاج فلم ينجح، ولكن عجوزًا ذهبت لهذا الرجل، وكان أن شفى المريض على يد الكنفانى الذى قدم له العلاج. أصول غائبة وروايات مؤلفة جذورها فى التاريخ العربى تعود لمئات السنين، حتى أن بعض القصص المختلفة صارت تنسج حول ابتكارها، وتاريخها الذى اختلطت فيها الأصول الغائبة بالروايات المؤلفة والمختلقة، وحتى الآن لا يتفق الباحثون على الأصل التاريخى لصناعة الكنافة، هناك عدة روايات حول ظهور الكنافة، فبحسب كتاب «شهر رمضان فى الجاهلية والإسلام»، يقول البعض إنها ظهرت فى مصر، وبعضها يقول فى بلاد الشام، وتقول الرواية الأولى إنها ظهرت أثناء العصر الفاطمى، ضمن عاداته وتقاليده، مع غيرها من أصناف الحلوى والكعك والبسكويت وكعب الغزال، وحلوى المولد والعروس والحصان وغيرها، فيما تقول الرواية الثانية، إن الكنافة ظهرت أثناء ولاية معاوية ابن أبى سفيان، من بلاد الشام، فى عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، حيث طلب معاوية من طبيبه أن يعد له طعاما يساعده على صوم الشهر الكريم حتى لا يشعر بالجوع خلال ساعات الصيام الطويلة، فأعد له الكنافة يتناولها مع طعام السحور، حتى إنهم أطلقوا عليها اسم كنافة معاوية فيما بعد، حيث قدمت له طعاماً فى السحور أثناء ولايته فى دمشق. وفى قصة معاوية ثمة رواية تشير إلى أن طبيبه قد أوصى بها، والرواية الثانية أنها صنعت لأجله كنوع من الرفاه، وهذا يعنى أنها ليست مجرد غذاء شهى، بل هى أيضاً ربما كانت علاجاً أو مصدراً للحيوية انتبه له الطبيب الدمشقي. وقد روى «السيوطى» عن ابن فضل الله العمرى صاحب «مسالك الإبصار» أنه قال: «كان معاوية يجوع فى رمضان جوعاً شديداً فشكا ذلك إلى محمد بن آثال الطبيب فاتخذ له الكنافة فكان يأكلها فى السحر فهو أول من اتخذها». وهذه القصة تم التشكيك فيها من قبل بعض العلماء والمؤرخين، كما فعل حمد سيد كيلانى، المحقق المصرى البارز فى الأدب والتاريخ، حيث كتب عن ذلك فى دراسة نشرت عام 1950 بمجلة الرسالة، وانتقد هذه الرواية. وثمة خلاف بين المصريين وأهل الشام حول صاحب السبق فى ابتكارها، ويقال إنها ظهرت فى العصر الفاطمى، عندما تصادف دخول الخليفة المعز لدين الله الفاطمى القاهرة وكان ذلك فى شهر رمضان، فاستقبله الأهالى بعد الإفطار وهم يحملون الهدايا ومن بينها الكنافة بالمكسرات كمظهر من مظاهر الكرم. وبالفعل زادت شهرتها فى العصر الفاطمى وذاع صيتها وقد اتخذت مكانتها بين أنواع الحلوى التى ابتكرها الفاطميون، وأصبحت بعد ذلك من المظاهر المرتبطة بشهر رمضان فى العصر الأيوبى والمملوكى والعثمانى والحديث، باعتبارها طعاما للغنى والفقير وهو ما أكسبها طابعها الشعبى. لكن أساتذة التاريخ الإسلامى يذهبون إلى أن تاريخ الكنافة يعود إلى العصر الفاطمى الذى امتد من عام (969- 1172 م) و(358-567 ه) وقد شمل حكمهم مصر والمغرب وبلاد الشام، وقد عرفها المصريون قبل أهل بلاد الشام، وذلك عندما تصادف دخول الخليفة المعز لدين الله الفاطمى القاهرة، وكان وقتها شهر رمضان، فخرج الأهالى لاستقباله بعد الإفطار ويتسارعون فى تقديم الهدايا له ومن بين ما قدموه الكنافة على أنها مظهر من مظاهر التكريم، ثم إنها انتقلت بعد ذلك إلى بلاد الشام عن طريق التجَّار، وأهل نابلس برعوا فى صناعة الكنافة بالجبن حتى اشتهرت وعرفت فيما بعد بالكنافة النابلسية. فى عصور لاحقة كالعصر الفاطمى والأيوبى والمملوكى وغيرها فقد ازدهرت صناعات الحلويات فى القاهرة، وباتت لها أشكال متنوعة وتقنيات خاصة، وظهر العديد من الألوان المبتكرة المعروفة إلى اليوم فى القطايف وغيرها. وقد ألف العلامة المصرى جلال الدين السيوطى (1445-1505م) كتاباً حمل اسم «منهل اللطائف فى الكنافة والقطايف»، ما يدل على شهرة هذين النوعين من الحلويات، التى ارتبطت بدرجة كبيرة برمضان فى تلك الفترات التاريخية. بينما تقول إحدى الروايات أن أصول الكنافة تعود إلى عهد الأتراك الذين حكموا نابلس قبل مئات السنين وقد تطورت الكنافة الإسطنبولية فى نابلس فيما بعد وأنتج منها أصناف كثيرة أشهرها الكنافة الناعمة التى تميزت بها نابلس لجودة الجبنة النابلسية ومازالت الكنافة طبق الحلوى الرئيسى فى رمضان. وهناك رواية ثالثة عن الكنافة لخمارويه الذى حكم مصر بعد أحمد بن طولون ولأن وجوده خارج مصر أكثر من داخلها بكثير كان يرسل ابنته أسماء المعروفة بقطر الندى بدلاً منه ولأن سفرها إلى مصر كان مستمراً أنشأ لها 11 استراحة على طول الطريق هى وحاشيتها وجلبت معها حلويات شامية منها الكنافة. هذه الرواية الأخيرة التى ترجح أن الكنافة كانت ابتكارًا مصريًا فى الأصل تقول إنها انتقلت إلى بلاد الشام من خلال التجار، وأن أهل الشام وضعوا بصمتهم عليها وأعدوها بطرق مختلفة ومبتكرة، فتارة يتم حشوها بالقشطة وتارة يتم حشوها بالجبن ويقدمونها أيضاً فى أشكال مبتكرة بأسماء أخرى كالمبرومة والعثمالية والمفروكة. وبشكل عام فإن صناعة الحلوى كانت رائدة عند العرب، وفى مواسم معينة، كالمناسبات الدينية يزيد الاهتمام فيها بتناول الحلوى كما يحدث مع شهر رمضان بالتحديد، إلا أن الإبداع فى تقديم الكنافة لم يتوقف عند اللمسات المبتكرة للمسلمين، وإنما شهدت تطورًا كبيرًا خاصة فى السنوات الأخيرة، فظهرت قبل سنوات الكنافة بالمانجو ثم الكنافة بالنوتيلا والكنافة بالريد فيلفت، وتحولت الحلوى الرمضانية الشعبية إلى حلوى «ملوكى» من جديد بهذه النكهات الجديدة التى رفعت أسعارها بشكل مبالغ فيه فى الكثير من الأحيان.