«البدوى» ينعش اقتصاد طنطا |كرنفال روحانى.. نشاط تجارى مكثف.. وكرم مجتمعى موروث    موسم سياحى بنكهة «الثقة» |ارتفاع الإشغال الدولى .. وانتعاش فى طابا ونويبع    نتنياهو: الحرب ستنتهي عندما يتم تجريد حماس من سلاحها    نتنياهو: الحرب ستنتهي بعد تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق غزة    رئيس الحكومة العراقية: الانتخابات البرلمانية المقبلة معركة بين أنصار الفشل والفساد وأنصار الإعمار والتنمية    هاتريك فيليكس.. النصر يكتسح الفتح ويبتعد بصدارة الدوري السعودي    التصريح بدفن ضحايا التنقيب عن الآثار بالصف    منة شلبي ل لميس الحديدي: أنا تزوجت شغلي وارتبطت بالفن طول عمري وكل دور عملته هو إبني    عمر محمد رياض يلمح لجزء ثان: في حكايات بتختار ترجع بنفسها.. لن أعيش في جلباب أبي 2    هل يجوز للزوجة أن تأخذ من مال زوجها دون علمه؟.. أمين الفتوى يوضح    توجيهات عاجلة من وكيل صحة الدقهلية لرفع كفاءة مستشفى جمصة المركزي    آرسنال يعود للصدارة بفوز صعبة على فولهام    البحوث الفلكية: 122 يوما تفصلنا عن شهر رمضان المبارك    الجارديان عن دبلوماسيين: بريطانيا ستشارك في تدريب قوات الشرطة بغزة    حلوى ملونة بدون ضرر.. طريقة عمل كاندي صحي ولذيذ للأطفال في المنزل    هيئة الدواء تسحب 17 مليون عبوة منتهية الصلاحية من الأسواق    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب مقاطعة سوريجاو دل سور الفلبينية    «الوطنية للانتخابات»: إطلاق تطبيق إلكتروني يُتيح للناخب معرفة كثافة التواجد قبل الذهاب للتصويت    منة شلبي في أول ظهور بعد تكريمها بالجونة على شاشة النهار مع لميس الحديدي الليلة    3 وزراء ومحافظ القاهرة يشاركون في حفل الاتحاد المصري للغرف السياحية لتكريم الدكتور خالد العناني    إزالة 10 مخالفات بناء على أملاك الدولة والأراضي الزراعية في الأقصر    وزارة المالية: بدء صرف مرتبات أكتوبر 2025 في هذا الموعد    "الإفتاء" توضح حكم الاحتفال بآل البيت    التحقيقات تكشف ملابسات مقتل مسن ضربًا على يد نجله بالجيزة    هل نستقبل شتاءً باردًا لم نشهده منذ 20 عامًا؟ الأرصاد تُجيب وتكشف حالة الطقس    إصابة أسرة كاملة في حادث تصادم بطريق الزقازيق الزراعي في الإسماعيلية    قصور الثقافة تفتتح أول متجر دائم لمنتجات الحرف التراثية في أسوان    مي الصايغ: اعتراض أول شاحنة مساعدات كبّد الهلال الأحمر المصري خسائر كبيرة    الرماية المصرية تتألق فى أثينا.. أحمد توحيد وماجي عشماوي رابع العالم    بتهمة ممارسة الفجور.. السجن 5 سنوات للطالب المنتحل صفة أنثى لنشر مقاطع فيديو تحت اسم «ياسمين»    البنك الأهلى يتقدم على الجونة بهدف فى الشوط الأول    الاحتلال الإسرائيلي ينصب حاجزا عسكريا وسط دير جرير شرقي رام الله    الصحة تختتم البرنامج التدريبي لإدارة المستشفيات والتميز التشغيلي بالتعاون مع هيئة فولبرايت    يلا شووت بث مباشر.. الهلال VS الاتفاق – مواجهة قوية في دوري روشن السعودي اليوم السبت    قرار بالسماح ل 42 بالتجنس بالجنسية الأجنبية مع احتفاظهم بالجنسية المصرية    محافظ الشرقية يثمن جهود الفرق الطبية المشاركة بمبادرة "رعاية بلا حدود"    قطاع الأمن الاقتصادي يضبط 6630 قضية متنوعة خلال 24 ساعة    أحمد مراد: نجيب محفوظ ربّاني أدبيًا منذ الصغر.. فيديو    غادة عادل عن ماجد الكدواني: فنان حقيقي وعميق وحساس وبيحب شغله جدًا    اليوم الرسمي ل بدء التوقيت الشتوي 2025 في مصر بعد تصريحات مجلس الوزراء.. (تفاصيل)    رامي ربيعة يقود العين ضد بني ياس في الدوري الإماراتي    طريقة عمل الفطير الشامي في البيت بخطوات بسيطة.. دلّعي أولادك بطعم حكاية    مرشح وحيد للمنصب.. «الشيوخ» يبدأ انتخاب رئيسه الجديد    موعد مباراة المغرب ضد الأرجنتين والقنوات الناقلة في نهائي كأس العالم للشباب 2025    الرئيس السيسي يستقبل رئيس مجلس إدارة مجموعة «إيه بي موللر ميرسك» العالمية    ضبط لحوم غير صالحة وتحرير 300 محضر تمويني خلال حملات مكثفة بأسيوط    تشييع جثمان الطفل ضحية صديقه بالإسماعيلية (صور)    رئيس جامعة القاهرة: مصر تمضي نحو تحقيق انتصارات جديدة في ميادين العلم والتكنولوجيا    جامعة أسوان تناقش خطة الأنشطة الطلابية للعام الجامعي الجديد    اكتشف أجمل الأفلام الكرتونية مع تردد قناة 5 Kids الجديد لعام 2025 على النايل سات والعرب سات    منافس بيراميدز المحتمل.. المشي حافيا وهواية الدراجات ترسم ملامح شخصية لويس إنريكي    مواقيت الصلاة اليوم السبت 18 أكتوبر 2025 في محافظة المنيا    زراعة 8000 شتلة على هامش مهرجان النباتات الطبية والعطرية في بني سويف    رئيس وزراء مالطا يشيد بدور مصر في وقف حرب غزة خلال لقائه السفيرة شيماء بدوي    تعرف على سعر حديد التسليح اليوم السبت    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 18 أكتوبر 2025    رد صادم من متحدثة البيت الأبيض على سؤال بشأن قمة ترامب وبوتين يثير جدلًا واسعًا    حكم التعصب لأحد الأندية الرياضية والسخرية منه.. الإفتاء تُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المستشار لبيب حليم لبيب يكتب: أهل الثقة.. وأهل الخبرة
«الحلقة الخامسة»
نشر في الوفد يوم 25 - 12 - 2019


فصل «هيكل» بين الثقة والخبرة أدى إلى هزيمة 1967
مصر من أوائل الدول التى عرفت الديمقراطية فى التاريخ
«السادات» حارب «مراكز القوى» باعتبارها بؤر الديكتاتورية
النظم الفاشية فى الشرق الأوسط تحاول إجهاض التحول الديمقراطى فى مصر
ما زلت أردد وسأظل أردد أن مصر من أولى الدول التى عرفت الديمقراطية فى التاريخ، فمنذ حوالى قرنين من الزمان استطاع الشعب المصري أن يفرض إرادته على حكامه فى وثيقة أجمع المؤرخون الأجانب على أنها بحق وثيقة إعلان حقوق الإنسان، فى ذلك الزمن المبكر طالب الشعب الأعزل بخضوع الحكام لحكم القانون، وعدم فرض أية ضريبة بدون موافقة ممثلى الشعب.
وهذا الذى نادى به شعب مصر سنة 1795، وأرغم حكامه على التسليم به، هو أروع دليل على أن الشعب المصرى على ما لسعب مصر من وعى ديمقراطى أصيل منذ القدم، وعى ليس مفتعلاً ولا مدسوسًا، وإنما هو وعى من صميم البيئة المصرية التى ورثت على مر الأجيال والقرون، تقاليد حضارة مجيدة.
إن العدالة الاجتماعية التى لم يعرفها العالم إلا حديثًا، وعرفها الشعب المصرى، وقررها فى حواره المباشر مع حكامه حين قالوا إن الحاكم لا يحوز على تأييد شعبه إلا إذا كانت سياسته هى العطاء، أى توفير العدالة الاجتماعية لجميع أفراد الشعب، بإعطائهم حقوقهم، ومنحهم فرصًا متكافئة فى الحياة، ونصيبًا عادلاً فى أمواله وفى ميزانيته.
ولا يمكن للشعب المصرى أن ينسى موقف جمال الدين الأفغانى من الخديو توفيق فقال له: ليسمح لى صاحب السمو أن أقول بحرية واخلاص أن الشعب المصرى، كسائر الشعوب، لا يخلو من وجود الخامل والجاهل بين أفراده، ولكنه غير محروم من وجود العالم والعاقل، فالنظر الذى تنظرون به إلى الشعب المصرى ينظر إليكم، وإن قبلتهم نصح هذا المخلص وأسرعتم فى إشراك الأمة فى حكم البلاد، فتأمرون بإجراء انتخابات نواب الأمة، نسن القوانين، وننفذها باسمكم وإرادتكم يكون ذلك أثبت لعرشكم، وأدوم لسلطانكم.
إلى هذا الحد استطاعت الحياة الفكرية والثقافية فى مصر أن تؤكد وعيها بضرورة الممارسة الديمقراطية للتقدم الحضارى للأمة، فالحياة الديمقراطية توفر عنصرى الاستقرار والاستمرار الضروريين للتطور والتقدم، أما الديكتاتورية فزاخرة بالنكسات والهزات والانهيارات، إذ أن النظام السياسى والاجتماعى والاقتصادى كله يتداعى بزوال شخصية الديكتاتور الذى تدور فى فلكه كل كبيرة وصغيرة!!
ولا يمكننى شخصيًا أن انسى الإمام محمد عبده، الذى كان من أوائل من طالبوا بالممارسة الديمقراطية فى مقالاته وكتاباته التى نشرها فى القرن التاسع عشر، وذلك على الرغم من أنه تطرق فيما بعد، وطالب بوجود الديكتاتور العادل، تعالوا معى نقرأ ما كتبه:
هناك أمر كنت من دعاته، والناس جميعًا فى عمى عنه، ولكنه الركن الذى تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه، وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة.
نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها، وهى لم يخطر لها هذا الخاطر على البال منذ مدة تزيد على العشرين قرنًا، دعونا إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته، فهو من البشر الذين يخطئون، وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطئه، ولا يوقف طغيان شهواته، إلا نصح الأمة بالقول والفعل.
جهرنا بهذا القول والاستبداد فى عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس عبيد له أى عبيد.
ويبدو من كلمات الإمام أن عصر الاستبداد الذى عاشه قد استغرقه تماما إلى درجة أنه تصور أن المصريين يعيشون حياة العبودية عشرين قرنًا متصلة دون أن يعترضوا عليها، لأن الاعتراض لم يخطر لهم على بال، هذا التشاؤم لم يمنعه من المجاهرة برأيه الحر على أمل ارساء المبادئ الأساسية الديمقراطية.
كان الإمام ينادى بأن أفضل القوانين وأعظمها فائدة هى القوانين الصادرة من رأى الأمة، وهو على خلاف الفكر الذى اعتنقه الفيلسوف الألمانى «شينجلر»، وكتب كتابه الرهيب انهيار الغرب، والذى نادى فيه برفع لواء الديكتاتورية، لأن الممارسة الديمقراطية أكذوبة كبرى!!
انهيار الغرب!!
رأى الفيلسوف الألمانى فى الديمقراطية وفى ممارستها، مجرد واجهة براقة تختفى خلفها الأقلية الحاكمة، المستبدة بكل رغباتها فى الاستئثار بالسلطة، على حين تملك الأغلبية المحكومة المغلوبة على أمرها الحرية بطريقة صورية بحتة!
وذلك أكبر دليل على ضيق أفق هذا الفيلسوف، الذى منعه من ادراك حقيقة الأخطاء المميتة التى أودت بجميع الحكام المستبدين فى التاريخ، قد اتفق معه فى أن كل أمة فى العالم تحكمها فعلاً أقلية صغيرة، لكنها، كشرط أساسى لاستمرارها فى السلطة، لا يمكن أن تتجاوز حدود العدل والحرية، كما تؤمن بها الشعوب والقضية الخطيرة التى أكدها الأفغانى ومحمد عبده وغابت عن ذهن شينجلر هى التحدى الحقيقى الذى تواجهه الممارسة الديمقراطية الناضجة بسبب الاتجاه الكامن فى الجماهير نحو عبادة البطل، فلابد أن ينضج المواطنون فكريًا، وثقافيًا، وحضاريًا إلى الدرجة التى يملكون فيها القدرة على الموازنة الصحيحة بين إعطاء القادة سلطات كافية فى جميع المجالات، لكى تمكنهم من القيام بواجبهم على الوجه الأكمل، وبين وضع الضوابط والأطر التى تنظم هذه السلطات، بحيث لا تتضخم وتفسدهم،
أو تبطل حق الأغلبية فى ابداء الرأى الحر المستقل.
ولكن لا يعنى وجود هذا التحدى أن نصرف النظر عن إقامة صرح الديمقراطية، ونبحث عن حلول أسهل، فلا يمكن الحصول على بدليل للممارسة الديمقراطية، قد يكون فى الممارسة بعض الثغرات التى يمكن تلافيها، ولكن فى غياب هذه الممارسة، وفى ظل الديكتاتورية تحدث أخطاء مميتة قد يتعذر إصلاحها.
والأهم من كل هذا وذاك الصفحة التى فتحها سعد زغلول وسجل عليها مواقفه التى أثبتت عمليًا مدى إيمانه بحق كل إنسان فى التعبير الحر عن رأيه، وفى الاختلاف مع الآخرين، هى صفحة يصعب نسيانها، وخاصة أنها تركت بصماتها واضحة على تاريخ مصر المعاصر، وإن كان حزب الوفد ما زال فى أذهان الأجيال فهذا يرجع إلى شخصية سعد زغلول، فقد كانت زعامته تستمد قوتها من عنصرين: أولهما: الممارسة الديمقراطية على أوسع وأنضج نطاق، مما جعله يحصل على تأييد الجماهير تأييدًا اجتماعيًا.
وثانيهما: وحدة الأمة بكل طوائفها، وفئاتها، وطبقاتها، وأديانها، ووقوفها فى جبهة متحدة. ولم ير معظم الذين تناولوا حياة سعد زغلول وفكره بالتحليل - وأنا واحد منهم - إنجازاً أروع من إيمانه بالديمقراطية، وترسيخه العميق لها.
فقد كتب عبدالرحمن الرافعى: أن الزعامة هى قدرة الإنسان على أن يقود الجماهير، وأن يجمع حوله أكثر ما يمكن من الأنصار والمؤيدين، أو المعترفين بزعامته، ولا شك أن سعدا قد جمع حوله منذ أواخر سنة 1918 إلى أن توفى سنة 1927 أكثر ما يمكن من الأنصار، وكانت له مقدرة عجيبة فى قيادة الجماهير، وقد جمع حوله بدون منازع الغالبية العظمى من الأمة على اختلاف طبقاتها وطوائفها، فزعامته أصبحت حقيقة من حقائق التاريخ القومى لمصر.
والعجيب أنه عندما رفضت أغلبية الوفد الموافقة على البيان الذى اقترحه سعد زغلول بعدم الثقة فى وزارة عدلى، أعلن أنه سوف ينشر البيان باسمه، وتحت مسئوليته، ولما خرج الأعضاء المخالفون له فى الرأى ينشرون بيانًا فى الصحف، يعترضون فيه على عدم اكتراثه برأى الأغلبية، أصدر سعد قرارًا بفصلهم مستندًا فى ذلك الوقت إلى التوكيل الشعبى الذى حصل عليه الوفد عامى 1918 و1919، والذى قام بحركته على أساسه، فقد كان الرجل يفرق بحسم بين الديمقراطية والتسيب.
وأعلن سعد:
أن الوفد الممثل للأمة، بعد انفصال المخالفين عنه، يستمر فى العمل رئيسه، وأعضاؤه متفقون فى المبدأ والغاية فى تبادل الثقة والاخلاص واحترام القواعد التى وضعوها، والأيمان التى أقسموا بها ويسعون بكل ما فى وسعهم للقيام بما عاهدوا الأمة عليه حتى بلوغه الغاية.
من هنا أؤكد أن سعدا كان يستمد قوته من إيمانه العميق بالديمقراطية، لذلك منحته الجماهير العريضة ثقتها المطلقة التى قام على أساسها بكل إنجازاته ومواقفه التاريخية.
«الديكتاتور العادل»
وعندما اندلعت ثورة 23 يوليو سنة 1952 كانت الأذهان مهيأة لقبول فكرة الديكتاتور العادل، لعله يستطيع أن يصلح ما أفسده الدهر، كانت فكرة الديكتاتور العادل قد نادى بها الشيخ محمد عبده من قبل، لكن نظرا لاستحالة الجمع بين الديكتاتورية والعدل، فقد تورطت الثورة فى براثن الديكتاتورية، مما جعل الجماهير تهفو مرة أخرى إلى حياة الديمقراطية.
ومن رواسب غياب الديمقراطية فى فترة السنوات الأربعين قبل ثورة التصحيح التى قادها الرئيس أنور السادات أننا مازلنا نعتقد أن الحياة النيابية عبارة عن جدل بين الأحزاب والهيئات السياسية، لكن الديمقراطية بمفهومها العلمى، عبارة عن قضية علمية أساسا، وتخضع لكل قوانين العلم الحديث، وأى تجاهل لهذه القوانين يحول الجدل المنطقى إلى كلام أجوف، ومناقشات بيزنطية، وأصوات لا معنى لها، ظن البعض أن المعارضة هى تنفيذ لمبدأ خالف تعرف، وهو مبدأ طفولى غير ناضج، فنتجت عنه المهاترات والتشنجات التى قد لا تخطر على بال أحد، فهناك بون شاسع بين المعارضة والاستعراض، وبين حمل المسئولية وحب الظهور، بين الامتلاء الفكرى، والجعجعة النابعة من ضيق الأفق والانحيازات الشخصية.
نعم لقد قضى السادات على مراكز القوى التى كانت بمثابة بؤر الديكتاتورية الغائرة فى جسد الأمة، وتطورت التجربة الديمقراطية الجديدة، وتحولت إلى ما سمى بالمنابر التى تعبر عن وجود الرأى العام، ولكننا رأينا العديد من السلبيات.
ربما ترجع هذه السلبيات إلى فترات الانتقال من نظام الحكم الشمولى إلى الديمقراطى، فهى فترات جعلت البعض فى مرحلة تشبه حالة انعدام الوزن الذى يصاب بها رواد الفضاء عندما يخرجون من نطاق الجاذبية الأرضية.
ففى نظام الحكم الشمولى يتحول الحاكم إلى مركز الثقل والجذب لكل مواطن، فالجميع يدورون فى
فلكه سواء بدافع الرغبة أو الرهبة، وتصاب الارادة الشخصية بالشلل، لكن بانتهاء الحكم الديكتاتورى، وتحول البلاد إلى النظام الديمقراطى يصعب على بعض الناس، وأحياناً معظم الناس، أن يتكيفوا مع جو الحرية من جديد.
وخصوصًا إذا كانت الحرية قد جاءت إليهم فى عقر دارهم من غير جهاد فى الحصول عليها، والقاعدة تقول أن من يحصل على شىء دون أن يتعب فيه، فلن يقدره حق قدره، وربما أساء استغلاله إلى أبشع الحدود.
من هنا تجىء مرحلة انعدام الوزن التى تصيب الناس بالدوار، وتجعلهم عاجزين على التفريق بين الديمقراطية والتسيب، وبين الحرية والفوضى!!
وقد ثبت تاريخيًا - سواء فى مصر أو فى خارج مصر - أن الضغوط التى يمارسها الحكم الديكتاتورى على المواطنين، تجعلهم يلجأون إلى الطرق الملتوية، وإلى الأساليب غير الأخلاقية حتى يمكنهم ممارسة حياتهم كما يحبون بقدر ما تتيحه لهم الثغرات التى تعتور النظام الشمولى، بل أصبحت الحياة فى الظل، أو فى الظلام جزًءا عضويًا فى معظم الأنظمة الديكتاتورية، فالجميع يخافون بعضهم بعضًا، ولا يأمن أحد ليومه أو لغده، لذلك فإنه يقتنص ما تصل إليه يداه بصرف النظر عما إذا كان هذا من حقه أو من حق الآخرين.
فالحقد هو النتيجة الطبيعية للديكتاتورية، فى حين تولد الديمقراطية الصحيحة كل أحاسيس الحب عند الناس، لكن هذه الأحاسيس لا تترسخ فى قلوب الناس بمجرد أن تتحول البلاد إلى النظام الديمقراطى، لأن رواسب الحقد التى تخلفت عن الحكم الديكتاتورى تأخذ من المؤمنين بالديمقراطية وقتًا ليس بالقصير حتى يمكنهم التخلص منها.
وخصوصا أن هذا الحقد لم يكن نتيجة لصراع فكرى مجرد بين الأطراف المعنية، بل نتج عن الصراعات المادية التى تسعى إلى أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية، وغالبًا ما يشجع الديكتاتور مثل هذا النوع من الصراع حتى يشغل الناس بقضايا حاجاتهم اليومية والملحة بحيث لا يتبقى لديه الوقت الكافى للتفكير فى الديمقراطية التى اختفت على أرضهم.
هنا تبرز قيمة الجانب الاقتصادى للممارسة الديمقراطية، فلا شك أن حرية المعدة هى الطريق إلى الحرية الحقيقية للفرد، بكل ما تتضمنه من حرية العقل والفكر والسلوك، لكن الحرية السياسية لا يمكن أن تعيش بدون الحرية السياسية وضماناتها التى تنطلق معها كل ملكات الإنسان فى الخلق والابتكار، والممارسة الديمقراطية التى لا تعتمد على الحقائق الاقتصادية تنطلق من فراغ، ولابد أن تنتهى إلى فراغ.
ذلك لأن دول العالم تتعامل بناء على ما تملكه كل دولة من ثروة بشرية واقتصادية وإنتاجية، أما التعامل على أساس المبادئ المجردة والشعارات البراقة فيعد فى حقيقة الأمر الذى يحيط به الساسة التقليديون فى مناوراتهم حتى تكتسب مظهرًا إنسانيًا براقًا.
لكن حجر الأساس فى كل هذا هو التنمية الاقتصادية التى لا مفر منها، من هنا كانت العلاقة العضوية بين حرية العقل وحرية المعدة، فمن الصعب أن نطلب من جائع التضحية فى سبيل المبادئ السياسية التى تنادى بها الدولة، ذلك لأن للطبيعة البشرية حدودًا ومتطلبات ملحة لا يمكن التغاضى عنها بأية حال من الأحوال فلكى تشق الأمة طريقها بين أمم الحضارة، لابد أن تتعادل كفة الحقوق مع كفة الواجبات حتى لا تفقد المسيرة توازنها.
«أزمة المثقفين»
ولم تقتصر آثار التجربة الديمقراطية فى مصر - بعد ثورة التصحيح - على التحرك داخل حدود مصر، بل امتدت لكى تؤثر بطريق مباشر أو غير مباشر على البلاد المحيطة بها، لذلك فهى تعد السبب الرئيسى والخفى وراء الصراع الذى خاضته مصر، ومازالت تخوضه مع النظم الفاشية، والديكتاتورية، التى تجاورها فى منطقة الشرق الأوسط.
فالديمقراطية لا تعنى سوى النضخ السياسى والحضارى، بينما النظم الفاشية مازالت غارقة حتى أذنيها فى تخبطات المراهقة السياسية، وشطحاتها الصبيانية.
لذلك نظروا إلى مصر - فى ذلك الوقت - على أنها العدو الأول الذى يمكن أن يصدر إليهم التجربة الديمقراطية التى كان من المؤكد أنها ستزلزل كراسى الحكم والسلطات من تحتهم.
وخصوصًا أن الممارسة الديمقراطية هى تصحيح مستمر فى حياتنا اليومية عن طريق تأكيد الإيجابيات وتصفية السلبيات بعيدًا عن الشعارات الجوفاء التى كانت تقدمها الأنظمة الفاشية لشعوبها.
ولا شك أن عنصر المقارنة - أيام السادات - كان يلعب دورًا ثوريًا عند الشعوب الواقعة تحت نير الفاشية، عندما تقارن وضعها بوضع شعب يمارس الديمقراطية من أوسع أبوابها.
ومع الممارسة الديمقراطية الجديدة لم تعد هناك أزمة للمثقفين الذين اتيحت لهم كل فرص التعبير الحر عن آرائهم فى كل مناحى الحياة، لكن عندما أتحدث عن أزمة المثقفين بعد ثورة التصحيح فإننى لا أعنى نفس الاصطلاح الذى أطلقه محمد حسنين هيكل على موقف المثقفين من الثورة أيام عبدالناصر، وقسم خلاله المسئولين فى الدولة إلى أهل للثقة وأهل للخبرة، وهو التقسيم الذى أدى بنا فى النهاية إلى نكسة 1967، إذ لا يمكن للزعيم أن يثق فيمن لا خبرة له، ولا ثقافة له، وإذا وثق فلابد أن تكون الهاوية فى انتظار الجميع، وإذا كنت اتفق مع هيكل فى استخدامه لاصطلاح أزمة المثقفين فذلك لأن غياب الديمقراطية فى عهد عبدالناصر قد سبب أزمة عنيفة لهم فعلاً لكننى استخدم الاصطلاح الآن على مستوى آخر.
مستوى يرتبط بموقف البيروقراطية والسلطة التنفيذية من التسهيلات الثقافية للجمهور، ولا يرتبط بموقف القيادة السياسية التى تشجع الثقافة وكانت تعدها جزءًا عضويًا من البناء الديمقراطى.
كل هذا يدل على أن الديمقراطية مذهب إنسانى شامل يمكن أن يستوعب كل الأنشطة الإنسانية ويعالجها بأسلوب يحترم كيان الإنسان، فهى تترك بصماتها واضحة على التاريخ، والسياسة والاقتصاد، والاجتماع، والأخلاق، والقانون، والثقافة، والإعلام، والأدب، والفن.
لا يمكننى الآن أن أنكر أن الرئيس السادات بعد أن تولى المسئولية خلفا لجمال عبدالناصر، وضع نصب عينيه بناء الديمقراطية بصفتها المبدأ الأخير من مبادئ ثورة 23 يوليو التى فشلت فى تحقيقه على مدى عشرين عاماً.
من هنا كان مناخ الحرية والديمقراطية الذى جاء نتيجة طبيعية لثورة التصحيح التى قادها السادات منفردًا وانتصار أكتوبر، وانتهز ساسة ما قبل ثورة يوليو 1952 هذا المناخ الجديد وعادوا إلى الحياة السياسية فلطخوا صفحات الثورة واظهارها بمظهر الوصمة فى تاريخ مصر المعاصر.
ومع ذلك لم يتراجع السادات عن تجربة الديمقراطية التى خاضها مع قوى الشعب، فقد ترك التجربة الديمقراطية تتفاعل بسلبياتها وإيجابياتها إيمانا منه بأنه فى نهاية الأمر لا يصح إلا الصحيح.
وفى أكتوبر يتلقى السادات رصاصات الغدر، ويبقى الحديث عن الأحزاب فى عهد مبارك!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.