في اليوم الخامس من شهر سبتمبر عام 2005م وفي ليلة حزينة لا تنسى راح من راح من كتابنا وفنانينا ونقادنا ضحايا في طقس مريع للموت الجماعي بقصر ثقافة بني سويف حيث اختطفهم الموت فجأة جثثا نبيلة متفحمة بعد أن اكتملت كل مفردات العرض المسرحي المخيف وتأهبت الضحايا وفي مقدمتهم من لجنة التحكيم أحمد عبدالحميد المؤرخ المخضرم المتابع ومدحت أبو بكر الذي هزه الشوق إلى النهاية في الوطن فعاد.. صالح سعد الذي شق طريقه في الصخر فصار يقطر مسرحا دون توقف.. محسن مصيلحي الدءوب الذي لم يكف عن العطاء لحظة ولم يعرف شيئا عن تأجيل الوعود.. بهائي الميرغني الهادئ الخلوق الحكيم ونزار سمك الصامت المخلص الفعال والحاضر خلف كل إنجاز.. ومعهم صلاح حامد المفعم بالفن وبالحيوية والحماس ضمن ثلاثين من الضحايا حتى الآن! الديكور الورقي جاهز للاشتعال والشموع التي سوف تعطي إشارة البدء في حصاد الدم حاضرة.. الأرضيات الموكيت المتعطشة لملامسة النار والسقف البلاستيكي المتلهف على التفحم مستعدان.. الأبواب وقد اطمأنت لغياب معدات الحريق وأدواته تغلق انتظارا لبدء مجزرة الحرق والخنق مجانا في «مسرحية الموت إهمالا وتقصيرا وإغضاء وتسيبا وجهلا» وكل ما يخطر على بال بشر في بلد الآدميين الأرخص والمواطنين منعدمي السعر والمسئولين اللاهين عن المتابعة والمراقبة وتسيير الانضباط! اكتمل العدد وتخطى المائة والعشرين من خلاصة المصريين - فمن الذي يقبل على المسرح غير القلة الفاعلة النافعة المتميزة وسط ما يحيط بنا ويخنقنا من ركام التفاهة وعفن التفكير وسوقية الذوق وانحطاط الحديث والنفاق وفساد المعاشرة؟ كل ذلك لتقع الواقعة وتنتهي كحلقة من حلقات المسلسل الدموي الذي أهديناه للموت تباعا في ميداني الحسين وعبد المنعم رياض وشرم الشيخ و قطار الصعيد وبالوعات المجاري المفتوحة وحوادث الطريق وانهيار العمارات وكل أصناف القضاء على النفس التي تكفّلنا بها وبرعنا فلم نعد بحاجة إلى «عدو خارجي» يمارس علينا فنون الإفناء وبنفس الإتقان! ودلوني على مسرح واحد أو سينما أو قاعة اجتماع أو محاضرات في جامعاتنا تم تجهيزها وتأمينها بعناية علمية حقيقية ضد الأخطار. وليتذكر وزير الثقافة أنني أطلعته عام 1990 على كتالوج ألماني يزن أكثر من ثلاثة كيلو جرامات شاملا جميع عينات المواد المستعملة في المسارح والمعالجة ضد الحريق - كي يعمم استخدامها وعذرا إذا قلت إنني قد اشتريته على نفقتي الخاصة حينما كنت مشرفا على مركز الإبداع بالمانسترلي – مثلما من حقه أن أذكر له تحمسه للمشروع واحتفاءه به في وقتها «آنذاك» لدرجة أنه أصدر قرارا بتعييني مشرفا عاما على مشروع مراكز الإبداع الوليد الذي أعادني إلى مصر بعد غيبة طويلة في الخارج تحمسي له ولمشروعات الوزير الذي كان أيامها ممتلئا بالرغبة في إحداث شيء في الثقافة جديد. لكن المشروع سرعان ما قُبر وطوي في زوايا وأدراج النسيان بعد أن قرروا أن تكون إداراته عطايا للمحاسيب وهدايا لمن حوله من صبية المنافقين. وأن تكون القصور التاريخية التي خصصت هذا المشروع وبناياتها الأثرية مرتعا للمجاملة وبؤرا لحفلات المحظوظين...! «هل أذكركم بقصر الأمير محمد على على شاطئ النيل والذي سرقت منه اللوحة الفنية الشهيرة قبل سرقة زهرة الخشخاش للمرة الثانية ثم طويت صفحتها تعمدا بأوامر وأيدي الفاعلين الذين نعرفهم جميعا؛ والذين طالما استقووا بدعم السلطة الفاسدة وتواطؤ المسئولين المنحرفين؟.. هل يكفي ذلك أم أضيف إليه ما نهب من مخلفات حريق الأوبرا القديمة بميدان إبراهيم باشا – التي أصبحت بعد ذلك مقرا لأقبح جراج سيارات عرفه العالم – وما اختفى من بقية مقتنيات فولكلورية نادرة كانت موجودة بمركز الفنون الشعبية بميدان التوفيقية وببقية تحف وثريات تاريخية و«أباليك» وقطع فنية وتماثيل صغيرة لا تقدر بثمن كانت موجودة بمسرح سيد درويش وكلاهما تابعان لأكاديمية الفنون؟... أم أعود فأرفع صوتي كما رفعته من قبل أمام « لجنة الثقافة والإعلام والسياحة بمجلس الشعب عام 2005 محذراً ومحاولاً استعادة ما تم نهبه من لوحات لكبار الفنانين التشكيليين كانت موزعة على المسارح ثم اختفت وأبلغت بها الوزير؟... ثم ارتفع صوتي بعد ذلك خوفا من «خطف» قطعتين أثريتين في مبنى المركز القومي للمسرح و الموسيقى والفنون الشعبية بشارع حسن صبري الشهير بالزمالك - والذي سرقت مساحته الكبرى وقسمه الأكبر من الأرض لتقام عليها فيللا حديثة جاهدت مستميتا كي يتم إيقاف بنائها أو أعرف اسم سارقها أو هوية مغتصبيها - وبقي مقر المركز الذي كان في أصله جناحا للخدم ثم أصبح مقرا سابقا للمجلس الأعلى للثقافة. أما القطعتان الأثريتان اللتان سال لعاب «إحداهن» عليها وما برحت تحاول أخذهما دون كلل أو ملل؛ فهما مرآة إيطالية ثمينة وصندوق زهور مذهبان يخصان صاحبة القصر - الأميرة رقية حليم أول حفيدة لمحمد على باشا. واللتان من خوفي عليهما من النهب بعدما استوثقت من نبل أصلهما وعراقته بسؤالي وتحرياتي الدائبة حتى توصلت إلى وجود ذكر لهما في دفاتر المقتنيات بإدارة المراسم بقصر عابدين وساعدني على التأكد من ذلك مسئول به – من حقه أن أذكره الآن بالخير - ولم أكن أعرفه شخصيا اسمه اللواء سعيد زادة. أتذكر الآن كل ذلك – لأن ذكريات الحزن تفتح الباب لتذكر ما ظنناه قد هدأ واستكان للنسيان من قوائم الأحزان - ولا بد أن يتذكر معي المسئولون آنذاك والمعنيون في وزارة الثقافة معهم - أنني نبهت في فترة رئاستي للبيت الفني للمسرح التي كان مدتها أربعة عشر شهرا ؛ إلى خلوّ جميع المسارح من تجهيزات الأمن «الحقيقية» وقابلية موادها المستخدمة كافة إلى الاشتعال حتى اتهمت بالتشدد والتزمت.. ولم أكف عن التحذير بأن «مسرح ميامي الجديد الذي لم يكن قد تم افتتاحه» قد زادت تعدّياته وتجاوزاته على الستين تعديا ومخالفة. وأنها تهدد جميعها بكارثة ؛ وأنني طالبت بتأمين المسارح كافة ضد جميع الأخطار. وأنني قد حاولت أن أوقف تجهيزه المخالف لكل قواعد الأمن والسلامة منذ البداية. لكنهم «هم أولئك أنفسهم» سرعان ما أنجزوا تأثيثه – كما يحلو لهم - في مدة ثماني وأربعين ساعة وكأنهم شياطين سيدنا سليمان قبل أن يوافقني الوزير على بدء تأثيثه كما ينبغي. وكيف أن مسئولا تاليا في رئاسة البيت الفني للمسرح قد استصدر من « إدارة الدفاع المدني» وتحت تهديد المسئولين موافقة «قسرية» منهم – كي نكون منصفين –بأن يتم افتتاحه قبل أن يتم تركيب محول كهربائي له. وبما يعني سرقة التيار ومخالفة قواعد الأمان والسلامة لمدة ليلة واحدة يحتفلون فيها بتشريف حرم الرئيس السابق للمسرح وتدشينها له حتى ولو كان ذلك خطرا على الأرواح ومخالفا لكل القواعد. ولولا أن الله ستر لتكررت مأساة بني سويف. وأنني بذلك أكون قد بلغت. فاشهد اللهم على أحيائنا وارحم شهداءنا وألهمنا الصبر وقدّرنا على مواصلة الاحتمال. (ملحوظة: نشر هذا المقال في الوفد مباشرة بعد الفاجعة بعنوان «ولا عزاء للمتسيبين».. وأضيفت إليه الآن بضعة سطور رأيتها بمضي الزمن وتغير الأحوال لازمة). دكتور أسامة أبوطالب