"جمهور الفنان لا يُعنى إلا بإنتاجه، يطلب المزيد والمزيد منه، ولا يهمه هل تحطمت نفسه أم لم تتحطم"، تلك هي الخلاصة التي تصف حال باقة من مبدعين مصر وفنانيها، فبوسط القاهرة تقع منارة من أهم وأقدم منارات الفن التشكيلي في مصر بل والعالم بأكمله. مبنى شاهق وعريق يضم مجموعة من المراسم التي أسسها الرائد والمبدع الدكتور ثروت عكاشة في الستينيات، وهى وكالة الغوري التي كانت منارة الفكر والإبداع آنذاك، وبدورها تمنح وزارة الثقافة لفنانيها تلك المراسم كمنحة حتى تكون محراب فنهم وإبداعهم. فاللوهلة الأولى عند الدخول إلى الوكالة، والتجول بطوابقها، تخطفك الأنظار إلى غرف مغلقة، ومحكمة بأقفال كاد أن يأكلها الصدأ، وعند التركيز أكثر ستكتشف أنها مراسم الفنانيين، التي أصبحت خالية من الفن وهجرها سكانها، وهنا كاد الفضول أن يقتلني لمعرفة السبب، في غياب الشمس عن تلك "المعابد"، وأنا هنا أقصد استخدام ذلك اللفظ، لأن المعبد يمكث فيه الإنسان ليناجي ربه، والمرسم هو محراب الفنان الذي يختلي فيه بنفسه ليناجي جمهوره من خلال فنه الذي يكشف عن ما يدور بوجدانه. وهنا بدأت في البحث عن من يكشف سر عزوف الفنانيين عن مراسمهم، حتى توصلت إلى ط. ع، الفنان التشكيلي، وأحد المسئوليين عن تلك المراسم. الفن هو شكل من أشكال الحياة من أجل الاستيقاظ من قانون الطبيعة، هذا ما تنبهه له الدكتور ثروت عكاشة، عند إنشاءه لمراسم وكالة الغوري حتى تكون بوتقة ينصهر فيها الفنان التشكيلي مع الحرفيين، فقد جمع الحرفيين وشيوخ الصنعات لصحن الوكالة لتعليم الصبيه، وفي الوقت ذاته خصص الطوابق العلوية حتى تكون مراسم للفنانيين التشكيليين، فالوكالة كانت وقتها مركز الإشعاع الثقافي بمصر ويقام بها الفعاليات الكبرى، ويقصدها صفوة الفنانيين والشعراء والمثقفين، هكذا استهل ط.ع حديثه. ولكن جاء الانفتاح ليقضي على تلك المنارة، فقد انحصرت الحرف التراثية وغزا المنتج الصيني الأسواق، الأمر الذي دفع الحرفيين لهجر مهنتهم ومن ثم هجر الوكالة، وبدأ الضوء يغيب شيئًا فشيئًا عن الغورية، حتى أن المثقفين توجهوا لأماكن أخرى، ومن هنا بدأت تتغير النظرة للفنان التشكيلي، وأصبح تواجده بوكالة الغوري عبء على الدولة. وبنبرة صوت يغلب عليها الحسرة والآسى، قال ط.ع، إن هناك سياسة ممنهجة أصبحت تُتبع كوسيلة لتطفيش الفنانيين من المراسم، بتضيق الخناق عليهم بشتى الطرق، بداية من إزالة المرافق وقطع المياه عنهم، ووضع اللوائح التعجيزية التي تحتوي على الكثير من البنود الغير منطقية لتعجيز الفنانيين، منها منع الفنان من استخدام بعض المواد في الرسم، على الرغم من أن تلك المواد اساسية وجزء أصيل من الفن التشكيلي، ومنعه أيضًا من استقبال الزوار، وهنا السؤال: هل الفنان يعكتف بالأيام والأشهر داخل مرسمه، حتى يقف في النهاية وحيدًا يشاهد لوحاته؟"، أترك لكم الجواب. غابت الرؤية عن الهدف الأساسي الذي أنشأت من أجله مراسم وكالة الغوري، حتى جُرفت الوكالة من دورها التنويري، وغابت عنها شمس المعرفة، نتيجة خضوعها لمجموعة من اللوائح المتعارضة بين وزارتي الثقافة والآثار اللذان يسيران في مساران مضادان، ومن هنا نستنتج أن عدم التنسيق والتعاون بين الوزارتين يعد من أهم عوامل الطرد للفنانيين، فضلًا عن تعنت الموظفين الذي أصبح سيف على رقبة الفنانيين، وذلك لغياب الوعي والثقافة عنهم، ويرجع ذلك لعدم انتقاء العناصر التي ستقدم الخدمة لطبقة رقيقة وحساسة بطبعها. وفي نهاية حديثه، طالب ط.ع، بضرورة تشكيل فريق عمل يشارك الفنانيين على أرض الواقع، لإزالة العقبات التي تواجههم، ولإحياء مراسم وكالة الغوري من جديد، التي أنشأت حتى تكون بوتقة ينصهر فيها الحرفي والصانع الماهر مع المبدع والفنان ذات الحالة الوجدانية والثقافية الراقية. لدى الفن عدو اسمه الجهل، فبالفعل الجهل القاتل الحقيقي للإبداع، لذا أناشد أجهزة الدولة المعنية بإعادة النظر لتلك المنارة الثقافية والفنية، التي تحوي فنانيين ومبدعين أصبحوا على حافة الموت نتيجة الإهمال وغياب الوعي، وتسليط الضوء على الفنان المصري، من أجل مستقبل أفضل، وأجيال مزدهرة، وواقع فاتح للشهية.