"هو سيرك.. صحيح مهرج..عامل زي اللي ماشي على الحبل..هو شغل شقلبظات وخلاص".. عبارات ارتبطت في مخيلتنا بحياة لاعب السيرك، وكأنه شخصية غير مسئولة أو فهلوي ولكن بمجرد أن تقترب منه عن كثب تجده صندوق أسرار يحوي بداخله كل ماهو سهل وممتنع، مشاعر وحكايات، قيم وتقاليد، إيمان بالقضاء والقدر، وبأن سعادة الإنسان في هدف يتحقق، وعشق مهنة ينجح فيها ورسالة يؤديها. عشق حتى الممات مشاعر دفء وبهجة وغموض لا مثيل لها تنتابك بمجرد وقوفك على مدخل"السيرك القومي بالعجوزة".. فهو كما وصفه مديره ،كابتن محمد أبو ليلة ، بيت كبير يضم بين جنباته 240 فنان وفنانة ينتمون لأربعة أسر فقط.. يمثلون نموذجا مصغرا للمجتمع الكبير بحلوه ومره، يواجهون سويا صعوبات الحياة وضعف المرتبات وعدم وجود غرف كافية لاستبدال الملابس.. وغيرها من المفاجآت التي شرد لها ذهني ووضعتني أمام السؤال :أين المسئولون في وزارة الثقافة من هؤلاء الفنانين الذين تفانوا على مدى 50 عاما لإمتاع الجمهور المصري والضيوف العرب والأجانب بأبسط الإمكانات؟ يقودك المدخل إلى خيمة العروض التي شهدت على مدى 50 سنة تصفيق جماهير ودموع فنانين على صديق أصيب أثناء تأدية فقرته أو قريب فقد، مهرجون تفننوا في أداء نصوص تربوية موجهة للصغار والكبار، أكروبات وفقرات ساحر.. وأيضا زئير أسود وفحيح أفاعي! قررت اقتحام كواليس هذا العالم المنغلق على نفسه لأتعرف على مواصفات فنان السيرك الناجح، وماهي حقوقه لدى وزارة الثقافة، ولماذا لا يتم الاستعانة بالخبرات منهم كمدربين، وماذا عن تأمين الفنانين والرعاية الصحية المتوفرة لهم، وهل يكفيهم دخلهم الشهري..؟ حفيد الوز عوام دنيا ،لاعبة فقرة المكعب، في المرحلة الثانوية، تربت في السيرك منذ طفولتها فهي حفيدة الراحل مدرب الأسود أحمد الحلو ترى أن مواصفات فنان السيرك تختلف عن أي فنان آخر.. وأولها التضحية بالذات في سبيل تصفيق وإسعاد محبيه، صفاء الذهن لتحقيق الاتزان، الصبر، عشق المغامرة والمجهول، الثقة في النفس، حب العمل، حب الناس، الوفاء الذي تعلموه من الحيوانات..ولا تنسي دينا الأسد الذي هاجم جدها وقتله ثم امتنع عن الطعام حزنا عليه حتى مات. وتؤكد أن لاعب السيرك عليه أن يؤدي أغلب فقرات السيرك في بداية مشواره المهني حتى يتخصص في أقربها له. وحول تأثر شخصية فنان السيرك بالفقرة التي يؤديها يقول كابتن أحمد ،لاعب فقرة البانتومايم التي تساير أحدث فنون السيرك القائم على الدراما: مدرب الحيوانات الأليفة يتعلم الصبر وعدم اليأس والمثابرة في سبيل تحقيق الهدف، كما أن مدرب الأسود يتميز بقوة الشخصية، والساحر تراه يتحدث بهدوء مستخدما يده في التعبير، إلا أن الأمر يختلف بالنسبة للمهرج الذي يقاس نجاحه بمدى قدرته على رسم البسمة على الشفاه ولكنه قد لا يضحك آخرين بعيدا عن تقمص شخصية المهرج. إمكانيات بسيطة ولكن "على الرغم من وجود لائحة مادية خاصة بفناني السيرك إلا أنه من غير العدل أن تتساوى حوافز مدرب الأسود مع الفنانين الآخرين".. بذلك الاعتراض يبدأ كابتن "أبو ليلة" ،مدير السيرك، كلامه مؤكدا أن الحيوانات المفترسة يتم تغذيتها على حساب مدربها مما يشكل عبئا كبيرا على الفنان. ويصف مرتبات فناني السيرك بالضعيفة، والتي لا توفر لهم التغذية اللازمة والتدريبات والحياة المستقرة التي تؤهلهم لمتابعة إبداعاتهم، وعلى الرغم من وجود وعود بزيادتها إلا أن شيئا لم يتحقق بعد. وباستهجان شديد تقول "طاطا الحلو" لاعبة الشرائط الصينية: 284 جنيه راتب المعينين الجدد، وزي ما ربنا بيرزق الناس في مصر بيرزق فناني السيرك لأنهم لو اعتمدوا على مرتباتهم مش هيقدروا يعيشوا ويوضح كريم راشد ، لاعب، أن هناك فارقا جوهريا بين السيرك المصري وغيره في دول العالم ، فعلى الرغم من بساطة الإمكانيات التي يحتاجونها إلا أن وزارة الثقافة لا تلتزم بتوفيرها كاملة وفي الوقت المناسب للفنان، إضافة للروتين والبيروقراطية في توفير الأدوات مما يضطرهم لإحضارها على نفقتهم الخاصة. ويضيف أنه حتى التدريب في السيرك فيعتمد على خبرة الآباء واجتهادات الأبناء، دون الاستعانة بخبراء عالميين أو متخصصين. وردا على هذه المشكلة يشير كابتن "أبو ليلة" إلى قرب إفتتاح مدرسة السيرك بالتعاون مع فنانين أجانب وخبراء مصريين سيقومون بتحديد الألعاب وعلى أساسها سيتم اختيار 20 ولدا وبنتا، وتتضمن الإختبارات مقاييس معينة للتاهب النفسي ومدى حبهم للسيرك، اللياقة البدنية، والرشاقة، والسرعة والمرونة، فضلا عن الفحوصات الطبية العامة، وتقبلهم للصعوبات والخطورة، ومدى قناعة الأسرة بفكرة سفر التلميذ للداخل والخارج. مخاطرة بلا إسعافات أو تكريم جلست أنتظر أحد الفنانين فإذا بالكابتن أحمد فنان البانتومايم يركض مسرعا محضرا قوالب ثلج لفنان أصيب أثناء أحد العروض، لأفاجأ بأن السيرك القومي بهذا التاريخ العريق لا يوجد به أخصائي علاج طبيعي ولا وحدة اسعافات أولية، وحينما طلبوا سيارة إسعاف فوجئوا بأنها تقف عند مسرح البالون. استوقفني المشهد ليوضح لي الكابتن "أحمد" أنه في حالة تعرض أي لاعب لحادث في السيرك فإن الزملاء يسارعون بإحضار سيارة ويجمعون المال من بعضهم البعض ويذهبوا بالمصاب لأقرب مستشفى، ثم يحضرون الأوراق لتقديم الإجازة. يقول كابتن "أبو ليلة": للأسف المعينون يخضعون للتأمين الصحي، والمعينون بعقود لا يحصلون على هذا البند، وسواء هذا أو ذاك فهو أمر غير منطقي بالمرة عدو توافر الرعاية الصحية بالسيرك مع تعرض اللاعبين للكسور التي قد تؤدي بأحدهم للعجز التام، أو للوفاة. بلال رماح، لاعب، يقول: تعرضت لشبه قطع لذراعي حينما ساهمت في إحدى حفلات الأيتام، وكنت أقف على طاولة زجاجية فإذا بها تكسر من تحتي لأسقط من فوقها حتى ان ذراعي كاد أن يقطع لولا ستر الله ودعا الوالدين. الحلو فين؟ "أصعب لحظة حينما نفقد واحد مننا".. بعيون تمتليء بالدموع تتذكر "طاطا " وفاة عمتها محاسن الحلو وكذلك نجوم ونجمات في عز الشباب قائلة: التكريم لا محل له من الإعراب على مستوى الوزارة، حتى أننا لا نجد صالة أو استراحة باسم العمالقة الذين توفوا داخل السيرك. وتثير مشكلة أخرى متسائلة قانون الدولة عقيم وساذج.. كيف أضحي بخبرة فنان لمجرد أنه بلغ سن المعاش علما بأن بعضهم يتم الاستعانة به في السيرك الخاص شاهد الفيديو والصور: ;feature=player_embedded ;feature=player_detailpage