الشاعرة ذات القلب الطيب أوت الفتى، قالت له لا تحزن سأجعل من اغترابك رحلة صوفية لإعادة اكتشاف ذاتك، فلما بكى الفتى رغماً عنه، حنت عليها بيديها وأهدته من حقيبة يدها قطعة من البسكويت ذى طعم حلو، ما زال أثر السكر على شفتيه. الشاعرة لها عين بنية ويد حانية صغيرة مست بها يد الفتى الذى أضحى فتياً، وقبلت وجنته فتوردت. سألها ذات يوم عن الدمية التى تحتفظ بها فى غرفتها، قالت: «سألت الله أن يرزقنى فتاة، تكتب الشعر وتجرى وراء فراشات تطاردها وتنتعل حذاء خفيفاً لا يؤلم إصبعها». الشاعرة ذات القلب الطيب كانت تسمع أنين الأشجار وتفتح وفى يدها الحب فتنزل طيور جميلة تلتقطه وتلثم يدها.. فكانت تبتسم وتشكر الله. قالت الشاعرة للفتى: «إن ديارك كديارى، تجمعنا لغة واحدة وهوية واحدة فقط هى المسميات والفواصل التى تفرق بيننا». كانت الفتى شغوفاً بالمعرفة، قال لها ذات يوم أرغب أن أزرع بداخلك حلم نبتة صغيرة لفتاتك التى تحلمين بها. قفزت الشاعرة من جلستها وبان شعرها الذى انطرح ليصل إلى الأرض، أمسكت الفتى من يده وطافت بها غرفتها، وقبلته قبلة طويلة فسرى الخدر ببدنه. الشاعرة التى حلمت بفتاة، غابت عنه، استيقظ ذات صباح فلم يجدها، طاف فى أنحاء المكان باحثا، اندهش عندما وجد بيتها على النهر مقفلاً أمامه شجرة مبتورة وصقر يحلق فوق الطلل. الشاعرة ذات الأيدى الحانية أرهقت الفتى فى البحث، طاف بكل الطرق المؤدية إلى بيتها، كان ينتظر العصافير الصغيرة، يسألها، لكنه لم يكن يملك مهارة الحديث مع الطير مثلها.. وقد حفرت وجهها بذاكرته قال له حكيم التقاه فى ترحاله: «هى بداخلك نقب عنها، ستجدها يوما إذا خلعت قلبك بيدك ووهبته للطير، على أن توزعه بعدالة بين العصافير، فلما خلع الفتى قلبه من جسده، عرضه للطير التى أبت فى البدء ثم سرعان ما تجمعت تنقره مناقيرها وكأنها تطهره من آثامه.. كان مستسلماً لجراحة التطهير، بأن فى المدى صقراً، خشى على ما تبقى من قلبه.. وحين ضم يده ليخفيه عن الصقر، كان الصقر قد اختطفه ورحل فى سمائه البعيدة. عاود الفتى الحكيم باكياً، قال له: «رد لى قلبى الذى اختطفه الصقر»، رد الحكيم: «هذا ما لم أستطع به خبراً، عاود غربتك وفى الليل ارتحل إلى البحر واكشف عن صدرك وناد على قلبك فإنه يأوى إليك». فعلها الفتى مراراً، وذات مرة يأس من نداء البحر فغفا، بدت الشاعرة ذات القلب الطيب، شقت صدرها والقمته ثديها بفمه، فاستقرت نفسه، لكنه لما استيقظ على صوت النوارس عاوده صوت الحكيم «ناد على البحر لعله يعيد قلبك وإن لم يعده فارتحل إلى بحر آخر». رغم لغتها الرمزية المموهة.. أجدها تشدنى لعالم أجهل كل معالمه, حين أحادثها يتبدى صوتها طفلة هادئة الملمح ترغب فى عناق البحر والشراع والتقاط صورة بجوار سمكة ملونة. تلك التى تسكن بعيداً وترحل بعيداً... حالمة ومستبدة وديعة ومتجبرة مقدامة ومتقهقرة... هى التى تسكن دياراً غير ديارى وتألف أناساً غير ناس بنى وطنى.. هى التى تنفلت من بين أصابعى حين تستشعر عناقى لها, تنفلت مثل انفلات صورة بخار الماء أمامنا. وحين أحكم حصارى لها تهرول وبيديها دميتها المفضلة تختفى بها عن الانظار وتنشد عالماً لا أحد فى العالمين يعرفه... هى التى سيطرت على مخيلتى وطبعت على الروح ايماءة حزن لم أعهده قبلا فعزفت عن اكتشاف من أحادثه بقدر اهتمامى بمشاركتها عالمها.. عالمها... ذلك الكهف المعزول عن كل العوالم التى ارتأيتها... هى.. إخالها ساعة غجرية الشعر تجرى وبيدها مشروب القهوة المثلجة التى تعشقها وتضحك فى صخب ومرة إخالها رصينة الملمح بكوفية عنق بنية تلف رقبتها وتسير فى سكينة... هى هذا وهى ذلك... وأنا فى مخيلتى المغتربة أنفث تخيلاتى فى دخان سيجارة ثم سيجارة ساكناً الغياب إلى أن تحضر، تكتب الشعر , ثم تنظر إلى حبات عمرها تحترق، بكت ولقيتها، كانت كطفلة توقف عمرها منذ أن هجرها الفارس الذى يسكنها، تعيش لتكتب الشعر دون أن تجرب وصفة جديدة لروح الحياة. لسنوات لم يعد قادراً على إحصائها، يتنقل الفتى بين البحار ينادى على قلبه لعل الصقر يعيده مرة أخرى أو تأتى الشاعرة فتلقمه ثديها. الحق أنه لم يعد يستشعر طعماً لأى شىء هو أيضًا فقد بوصلته القديمة، بات يظن أن هناك حقيقة غائبة لكن لم تعد فى الجسم طاقة الركض لأن يجرى لتتبعها، بات مهزوماً من الداخل، خاوياً من الخارج، تمر عليه الأحداث يقف فقط ليرقبها، وحين يهم بالتدخل فيها تتملكه غصة فى القلب وألم حين يعاود حراك الشهيق والزفير، هو أيضًا أضحى مزيجاً بين الحضور والغياب، لم يتجل منه ذلك الألق الذى كان يتبدى من قبل، ربما انطفأت بداخله شعلات لم يعد يتتبع مصدرها. هو لا يعرف حقيقة وجهته ولا قبلة مسيرة، يستشعر الحزن فى كثير من الوقت، والوحشة والوحدة فى أوقات أخرى.