كان هناك كم هائل من التحذيرات والمؤشرات، كان هناك شهود عيان وفيديوات وأشرطة سمعية وبيانات منشورة على المواقع الالكترونية، ومع ذلك لا أحد يعلم لماذا كان هذا التراخي في الحذر الأمني أقلة حماية للجنود المصريين، هل كان يجب أن تقع هذه المأساة المروعة في رفح حتى يستفيق الجميع، ويهب الجيش المصري لشن حملة واسعة النطاق واعادة الأمن إلى شبه جزيرة سيناء، في أي حال لا يزال عصياً على التصديق أن تقوم مجموعة مسلحين يفترض أنهم مسلمون بقتل جنود صائمين لحظة إفطارهم غروب ذلك السبت الأسود، إذ أن جريمة كهذه لا يمكن أن يرتكبها سوى عدد متوحش لا يعرف أي رحمة ولا ديناً. كثرت في الأونة الأخيرة، تحديداً قبل بضعة شهور، شكاوى المواطنين السينائيين من وجود مسلحين، بعضهم غرباء، يتجولون علناً وبحرية تامة، ويفرضون حالاً من الخوف والقلق، وبالتأكيد تناهى الأمر إلى السلطات، واجهزتها في القاهرة، ورغم أن المسؤولين المحليين حرصوا لأسباب غير مفهومة على القول إن الاوضاع عادية، طبيعية فقد كان الأولى أن تؤخذ المعطيات على محمل الجد، وبالتالي التحرك للتعامل مع الوضع حتى لو تطلب التفاهم مع إسرائيل، فالأخيرة اكثرت أيضا من اشاراتها إلى تراجع الأمن في سيناء، واعلنت حكومتها مراراً إنها درست واتخذت اجراءات لمواجهة أي اخطار، لكنها لم تعلن طبعاً أنها لن تتلاعب بالوضع الناشئ ولن تستغله للإفادة منه، فهي لا تتردد في الايذاء، خصوصا بعدما استشعرت في ثورة 25 يناير خسارة استراتيجية لها. قد تتم عملية تطبيع الاوضاع في سيناء بسرعة، وربما من دون صعوبات كبيرة، لكن هذا لا يعني أن الحل الأمني وحده يكفي، كانت مصر استعادت سيناء من الاحتلال الإسرائيلي 1982 بموجب معاهدة السلام، وشهدت وقتئذ فورة حماس لانماء شبه الجزيرة وتحويلها من منطقة صحراوية جرداء إلى بؤرة جاذبة للصناعات والسياحة وفرص العمل، بعد ثلاثين عاما لا يبدو أن الكثير قد تحقق، وأن القليل الذي انجز لم يبد مهتماً بسكان سيناء ولا باغراء مصريين كثيرين بالانتقال للعمل والعيش فيها، وفي الفترة نفسها بددت أموال ضخمة في "مشروع توشكا" على الحدود المصرية- السودانية قبل أن يتبين أنه مجرد وهم، لكن انفقت ايضا، في الفترة نفسها، أموال أكثر ضخامة لإنشاء ومنتجعات سياحية ومجمعات سكنية خارج المدن الكبرى من دون الالتفات إلى تحسين نوعية العيش في بعض نواحي العاصمة أو الشروع في ايجاد حلول للمناطق العشوائية التي بات يقطنها ملايين المصريين وتفتقد المرافق والبنى التحتية المناسبة. لم يكن مستغرباً، إذن، أن يتراكم التهميش والإهمال في سيناء ليشعر سكانها بأنهم متروكون لمصيرهم، بل مدفوعون إلى تدبير شؤونهم بالوسائل التي تبررها الحاجة، ولاشك أنهم وجدوا في قطاع غزة مجالاً حيوياً ومصدراً رئيسياً لرزقهم أقرب إليهم من "مصر الأم".. ومنذ فرضت إسرائيل حصارها اللا إنساني على غزة كان واضحاً أنها تلقي بالمعضلة على كاهل مصر، معضلة إنسانية ينبغي التعامل معها لتخفيف المعاناة، لكن معضلة سياسية أيضا راهنت إسرائيل فيها على الوقت الذي سيزيد ارتباط القطاع بمصر ويتقلص مع سائر المناطق الفلسطينية، وهكذا راحت الانفاق تتكاثر، وغدت خطوط مواصلات ناشطة تتم عبرها كل الانشطة التجارية وغير التجارية. في مثل هذه البيئة تداخل المشروع بالممنوع، والسلاح بالدواء والغذاء، وتهريب السلع بتهريب البشر، في مشهد اقرب إلى السوريالية لكنه في عمق الواقع، ومع ذلك فإن الاعراف الآدمية ترفض قبوله، فلا هو يعالج مشكلة حصار غزة وفقا للقوانين الدولية، ولا هو يؤهل السينائيين لحياة مفتوحة على تنمية صحيحة لأوضاعهم، ولا هو يزيد إلى نضالية غزة وكفاحها، ولا هو أخيراً يزيد الجانب المصري وطنية وقومية، كان هذا الوضع ولايزال معيباً ومخيباً، بل زاده تفاقماً أن إسرائيل والولايات المتحدة وضعتا النظام المصري السابق في اختبار سلوكه ينجح فيه أو يفشل إذا استطاع سد تلك الانفاق، ما لم تفلح فيه إسرائيل يبدو أن المجموعات المسلحة، ذات التوجه "الجهادي".. اضطرت مصر أخيراً إلى اتخاذ قرار طالما استبعدته بشأن الانفاق، فالذين قتلوا الجنود في رفح جاءوا عبر الانفاق واستولوا على المركبات مندفعين بها إلى داخل القطاع. لا يمكن أن نتخيل كم كان التصفيق والتهليل عالياً في غرفة العمليات الإسرائيلية، فهذه عملية كانت ناجحة ومربحة ومجانية إلى اقصى حد، بل إنها تمت كما لو أن "الموساد" خططها وربما على نحو أفضل مما لو كان خططها، وعدا نتائجها وتداعياتها على الجانب المصري فإنها شكلت أفضل اختبار يمكن أن تجريه إسرائيل للحكم الجديد في مصر، ثم إنها وجهت ضربة قوية للعلاقة بين جماعة "الإخوان المسلمين" وحركة "حماس" التي لم تكل من نفي أي علاقة لها بمجموعة القتلة، لكن الحكومتين المصرية والإسرائيلية اعتبرتاها "مسؤولة" عما حصل كونها سلطة الأمر الواقع في غزة، أما "حماس" نفسها فلعل شكوكها واشتباهاتها ذهبت في اتجاه آخر، فإذا كان جانب من العملية موجهاً لضرب هيبة حكمها فلعل هذا أول انذار ملموس تتلقاه بعد مغادرة قادتها سوريا ونأيها بالنفس عن الخط الإيراني الذي اتكأت عليه وعول عليها لتثبيت نفوذه في القطاع وامتداداته. وسط كل هذه التداعيات يبرز أيضا البعد "القاعدي" بفرعيه الغربي "جيش الإسلام" والسينائي "انصار الجهاد" وكان الاخير أصدر قبل شهور مبايعة لأيمن الظواهري زعيم تنظيم "القاعدة".. لاشك في أن التنظيم وجد بيئة متقبلة في سيناء لا لأفكاره وإنما ل"فرص العمل" التي يمكن ان يوفرها، ولاشك أيضا أنه يشهد تنافسا بين اختراقات كثيرة تستهدفه وتستخدمه، من هنا أن مهمة اعادة الأمن إلى سيناء يجب أن تكون لمصلحة مصر، كما لمصلحة غزة، أما أن تكون لمصلحة إسرائيل فقط فهذا يبقي المشكلة ويفاقمها من دون أن يعالجها، والأكيد أن البداية لابد أن تكون بانهاء الحصار على القطاع.. فالأمن ليس أمن إسرائيل فقط بل أمن الجميع، ولكل جانبه من المسؤولية نقلا عن صحيفة الشرق القطرية