ليس صحيحا أن الخطر الذي يهدد إقامة دولة مدنية في مصر يمثله التيار السياسي الإسلامي، بل أن الطعنة المميتة للدولة المدنية سوف تأتى على يد القوى السياسية المسماة بالليبرالية والاشتراكية والناصرية، معظم هؤلاء، كانوا في أحزاب أو حركات أو ائتلافات، أشد خطرا مما يطلقون عليه بالثورة المضادة أو الدولة العميقة أو فلول النظام، وإن شئت يمكنك أن تقول: إن هؤلاء هم الدولة العميقة أو الثورة المضادة، حيث سيسلمون هوية البلاد وأركانها للتيار الدينى مقابل بعض الفتات. والمراقب للمشهد السياسي جيدا يلفت انتباهه هرولة النخب السياسية خلف الإسلاميين بقدر يمكن تشبيهه بالفتاة التى تسلم نفسها مقابل سهرة أو بنطلون جينز، الفتاة بمقدورها أن تسلم نفسها بأكثر من ذلك، لكن طمعها وتربيتها وثقافتها وبيئتها التي نشأت فيها على الحرمان والنفعية، جعلتها لا تفكر سوى فيما تستطيع أن تستمتع به خلال اللحظة، ومن يقايضها يعلم جيدا أنها تبيع بسهولة وببساطة وبقدر بخس، وأنه يستطيع بسهولة أن يحصل على ما يريده منها عند تلويحه لها بالسهرة أو بالبنطلون الجينز، كما انه يعلم كذلك أنها تبادر بتقديم نفسها قبل أن تقبض فى يدها ثمنها البخس، وإنها من الممكن أن تسلم نفسها وبسخاء مقابل وعد منك بالسهرة، القوى الإسلامية تثق فى أن معظم النخب السياسية مثل هذه الفتاة، مقابل وعد بمنصب سيصطفون خلفهم، ليس هذا فقط بل سيبررون ويدافعون عن جميع أفكار ومصطلحات التيار السياسي الديني. قد أكون مبالغا في رؤيتي هذه، وقد أكون متشائما، وقد أكون سيئ الظن بعض الشىء، وقد اكون مخطئا، لكن ما أراه وأسمعه من وعن بعض هؤلاء النخب يقطع بأن إجهاض مقتل الثورة سوف يكون النخب السياسية، وأن الدولة الإخوانية أو دولة الخلافة سوف يضع حجر أساسها ويقص شريط افتتاحها معظم النخب السياسية. تعالوا نراقب ونحلل المشهد السياسي الحالي، في مجمله صاخب ويسوده التوتر والترقب، جماعة الإخوان تمسك بزمام الحركة داخل المشهد، قيادتها هم الذين يطلقون صفارة بدء وتوقف الحركة. في المشهد ترى النخب السياسية يمثلون معظم التيارات والايديولوجيات، لكنهم يتحركون بأمر صاحب الصفارة، وحركتهم لا تخرج علي المساحات التي سمح بها قيادات الإخوان. ما يقلقنا ويشعرنا بالخوف فى هذا المشهد نجمله في أمرين، الأمر الأول: المرجعية الإسلامية، فقد نجح التيار الديني في فرض مرجعيته على المشهد السياسي، حيث تمكن وبسهولة من إجبار النخب السياسية على الاستشهاد بالقرآن والسنة وتاريخ الصحابة فى الحوارات المتبادلة بينهم. وأصبح من الطبيعي أن ترى وتسمع النخب السياسية تستشهد بآيات قرآنية أو أحاديث نبوية خلال المناظرات أو اللقاءات الصحفية والفضائية أو في صياغة البيانات، كما أصبح من الطبيعي كذلك ذكر بعض مواقف الصحابة رضي الله عنهم، وكأنك ترى وتسمع أحد أعضاء جماعة الإخوان أو القيادات السلفية، وتفسير هذا ربما يكون نوعاً من المغازلة المقيتة، وربما يعد نوعا من التبعية المخزية، وربما هو الأقرب للواقع، هو نوع من الخنوع والنفعية، فهذه النخب غير مخلصة في مسعاها ولا في الشعارات والأفكار التي تطرحها، لأنها تبحث عن دور من أجله ستتنازل عن أي شيء وكل شىء. الأمر الثاني: القاموس الإسلامي، حيث نجح التيار الديني فى فرض مصطلحاته على الحوار المتبادل داخل المشهد السياسي، وبسهولة شديدة تخلت النخب السياسية عن مصطلحاتها وقاموسها الأيديولوجي، على سبيل المثال اصطلاح الدولة المدنية، التيار الديني رفض وبشدة استخدام كلمة مدنية فى وصف الدولة، وذلك لأن المدنية فى خطابهم الفقهي هي دولة الكفر، يستبعد فيها كتاب الله وشريعته، وأن مواطني الدولة المدنية هم علمانيون وهؤلاء كفرة والعياذ بالله. ظهرت هذه المشكلة لأول مرة عند صياغة وثيقة مبادئ حاكمة أو عامة للدستور، حيث رفض قيادات الإخوان والتيار السلفي استخدام كلمة مدنية واقترحوا وصف الدولة بالشورى، وتجنبا للانقسام اتفقوا على استبعاد كلمة مدنية ووصف الدولة بالديمقراطية، وتنازلت قيادات الأحزاب عن المدنية وأخذوا بمصطلح الديمقراطية. أثيرت هذه المشكلة مرة أخرى داخل اللجنة التأسيسية منذ أسبوعين عندما تعرضوا لصياغة المادة الثانية من الدستور المعطل، التيار السياسي الإسلامي رفض بشدة مصطلح مدنية، وأصر على استخدام مصطلح الشورى إعمالا بقوله تعالى:" وأمرهم شورى بينهم" الشورى 38، وجرت بعض المناقشات انتهت إلى استبعاد كلمة مدنية، ووصف الدولة بالديمقراطية الشورية أو الديمقراطية التى تقام على مبدأ الشورى، والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل أن قيادات جماعة الإخوان والتيار السلفي فرضوا بعض مفاهيم الخطاب الدينى على بعض مواد الدستور، حيث فرضوا على الصياغة فكر المذهب السنى، وللأسف رضخت النخب السياسية لمطلبهم ببساطة وبسهولة، لماذا؟، يقال إن الجماعة وعدت بعضهم ببنطلون جينز وبدى مووف، وقيل إن بعضهم وافق من باب الجهل، وقيل إن بعضهم وافق لأن الأغلبية وافقت، وتردد بقوة أن بعض النخب أخذوا على عاتقهم الدفاع عن أفكار ومصطلحات التيار الإسلامي السياسي على وعد أن تعطيهم الجماعة المقابل مستقبلا. نظن أن المشهد السياسي كما قرأناه لا يبشر بخير، وأن أغلب عناصره وشخوصه والحوارات المتبادلة فيه تتجه بنا إلى إجهاض حلم الدولة المدنية، كما أنها تجرنا جرا نحو وضع أساس الدولة الإخوانية السلفية، وأن النخب السياسية، كما ذكرت بعاليه، هى التي تجهض الدولة المدنية وتدشن الدولة الإخوانية والله الموفق.