مصر التي تحتضن الإبداعات العربية المتميزة من المحيط الى الخليج ؛ باتت متهمة اليوم زورا بالانكفاء على نفسها والاغراق في نرجسيتها والاكتفاء بصورتها في المرآة . في هذا الباب ندحض هذا الكلام المرسل على عواهنه ونستعيد نبض التواصل من خلال أدباء مصريين يكشفون عن أسماء عربية فتنتهم إبداعياً. موعدنا اليوم مع الكاتب والمبدع محمد بركة، ليبحر بنا عبر تجربته مع ابداع من نوع خاص للشاعرة التونسية سونيا فرجاني...فيقول بركة عن ابداعها: ثمة اعتراف صغير في البداية ، فرغم أنني أكتب القصة و الرواية ، إلا أن غرامي الأكبر و شوقي الأعظم تخطفه نجوم الشعر و جنيات القصيد . نعم.. الشعراء من السماء ، و الروائيون من الأرض ، و لكن أي شعر ؟ أتحدث عن القصائد المكتوبة بالدم ، الكلمات المصاغة بحبر القلب ، المجاز المستوحى من يد تنزف و الخيال المسافر على أنقاض أعصاب تحترق . الشاعرة التونسية سونيا فرجاني تبدو لي من هذا النوع . قصائدها تشبه خيولا برية ، لا تعرف سكون و دعة الحرملك و إنما توحش الذات الإنسانية في بحثها عن المستحيل : ليس لي يدٌ أصابعي فقدتها وخسرت ساقيّ أحتاجها لأسير إليك بمصباح خافت تتبعني خفافيش صغيرة بلا أبوين ودخان بخور آلهة نامت ونسيت نجومها مطفأة أحب أن أعيد إليك العالم المؤجل سرّا أعرِفُهُ وأخفيه بشَعري أحاول أن أستعيد كفّي لكنها تحتي تنبش التراب الخافت وأعشاش النمل الخائف الجميل في شاعرتنا أنك حين تحاورها وتناقشها و تهبط على كوكب فكرها ستكتشف رؤى لا تقل جمالا عن الإبداع ، فهي على سبيل المثال لا تحب استعمال مصطلح القصيدة النسائية و ترى في هذا التقسيم تقليلا كبيرا من قيمة الشعر بمعناه الإنساني العام . المرأة برأيها ليست بحاجة لأنوثة لكي تحصل على ما تستحق من احتفاء . النقاد لا ينتبهون للشعر الكبير بكل أنواعه. مازالوا يسلكون نفس الطريق القديم لدخول الشعر وكلما اقتربوا من عالم الأنثى إلا وهابوا مسارها أو هبوا ضده على أنه ليصموه بالنقصان أو التمرد غير المباح. هم لا يؤمنون أن النص يبلغ ذروته مع المرأة . ورغم أن الجمال نسبي ، فمن تراها امرأة جميلة قد أراها غير ذلك ، إلا أن عالمنا العربي لاسيما في قسمه الشرقي لا يزال مولعا بالنظر بعيون الشك و الريبة لمن تجمع بين الإبداع و الجمال الأنثوي ، تلميحا و تصريحا بأن جمالها كان بوابتها للنجاح . حول هذه النقطة تحديدا تقول سونيا من واقع تجربتها : لم تٌفتح لي الأبواب لأني لم أطرقها، ومسيرتي الشعرية التي تجاوزت 25 عاما كنت فيها أعيش الشعر بهدوء كما أعيش الأمومة تماما. تفرغت للأمومة لأخرج للعالم ناشئة جميلة ومؤمنة بالسلام والحب .أنتجت خلال عشرين عاما مجموعتين فقط تحت الظل ،وفي الثلاث سنوات الأخيرة ،تفرغت للكتابة وأنتجت المجموعتين الأخيرتين. أنا لي أبواب أصنعها وحدي وأفتحها وحدي وأغلقها وحدي .وكل الذين كتبوا عني كانوا من طينة النبلاء ومن عالم المحلقين في مسافات شعر خالصة .لم أطرق أبوابهم ،طرق نصي مسامعهم وعلوّهم الفكري والشعري فهبّوا إليه بقداسة وإيمان. تبدو هذه الرؤية متسقة تماما مع سونيا الشاعرة حين تقول : لم يكن ضروريا أن تسقطي يا يدي هناك الكثير من أسراب الختام لابد من إسقاطها وهناك غمام مكره على السماء هناك أشياء منسية في صناديق عارية أفكر أن أوزعها أصنافا أصليّة للعيش وأغطية تقي من فصول أربعة ملّت لا أستطيع أن أعيد يدي ساقي تلاحق رجلي أستند على حائط خرب وحدي كجذع نخلة تصلح خليّة للنحل أنا الآن أنتظر أنظر أو أقطر لكن مزاجي هادئ لكن هل معنى هذا المزاج الهادئ أن سونيا راضية عن تجربتها ؟ سألتها فأجابتني : الشاعر ناقد شرس لكل ما حوله من مكونات وجود فما بالك مع نفسه أو مع نصه. النقد حالة صحية ، أنا لا أثق بنصوصي،أحصي قصائدي و أحدق فيها كأنها مواليد مشوهة ، اللغة مرآة ناقصة أو مشروخة لا تقدم لك المشهد كما تريد عادة أمرّ بالقصيدة بعد مدة من كتابتها وأفكر أن أقدمها عشاء للقطط . منذ سنوات قليلة ومع تجذر تجربتي وخروجها بقوة للساحة الشعرية العربية ،انتبه نقاد جادون جدا لهذه النصوص وسلطوا الضوء على كتابتي بل إنهم صنفوها وميزوها وحملوني مسؤولية عظيمة وخطيرة ، حتى أن بعضهم صنف نصوصي على أنها من أهم ما كتب في ما يسمى بقصيدة النثر.