لم يحلم قط الطالب حبيب إبراهيم العادلي وهو ينتظم في طابور عرض التخرج في كلية الشرطة دفعة يناير عام 1962 أنه يمكن أن يصبح مديرا لمباحث أمن الدولة, أو وزيرا للداخلية!، لكنه ظل 15 عاما بين فبراير 1996 وفبراير 2011 قضاها ملكا متوجا علي عرش مباحث أمن الدولة ووزارة الداخلية قبل أن يقف خلف القضبان.. في رحلة صعود مدهشة مليئة بالحكايات والأسرار، حاول الباحث نبيل عمر فك بعض خيوطها في تحقيق بالأهرام ينشره على حلقتين، يكشف لنا خبايا عالم مثير بواحدة من أهم الوزارات علي الإطلاق, والمصادفات التي تصنع الأسماء اللامعة, والشروط الواجب توفرها فيمن يفتح أمامه الأبواب للصعود إلي القمة, وقد تبدو الحكاية كما لو أنها تخص اللواء حبيب العادلي لكنها تتجاوزه إلي مصر ورجالاتها وكيف كانت تحكم, وكان أبرز ما جاء في الحلقة الأولى: كان العادلي منطويا, منعزلا إلي حد كبير عن زملائه, وتخلف في بعض المواد في السنة النهائية, فتأخر تخرجه ستة أشهر إلي دور يناير, ولم يكن تخلفه له أي تأثير علي حياته العملية, فالداخلية تفصل في التقدير بين عالم الدراسة وعالم الممارسة. أولي المصادفات المهمة في حياته هي انضمامه إلي المباحث العامة في عام 1965, أي بعد تخرجه بثلاث سنوات ونصف السنة, عمل خلالها في الأمن العام, ولا يعرف علي وجه الدقة من الذي رشحه للانضمام! والمباحث العامة هي الاسم القديم لمباحث أمن الدولة, والذي غير اسمها هو ممدوح سالم وزير الداخلية في عهد الرئيس أنور السادات, وقت حركة تصحيح 15 مايو 1971! التحق حبيب العادلي بالقسم العربي, وهو القسم الذي يتابع نشاط السياسيين واللاجئين والطلبة العرب في مصر, وأيضا يلاحق نشاط المصريين في الدول العربية, النشاط المعادي للحكومة, سواء من تنظيمات سرية هاربة أو أفراد معارضين علنيين أو ممولين في الخفاء لأنشطة داخلية عن طريق التحويلات المالية..الخ. وعمل العادلي بهذا القسم 17 عاما متواصلة. كان اللواء حسن الألفي وقتها قد ترك منصبه محافظا لأسيوط وتولي وزارة الداخلية في أبريل 1993 خلفا لشيخ العرب اللواء محمد عبد الحليم موسي, وفي أول حركة تنقلات للشرطة خرج حبيب العادلي مساعدا للوزير مديرا لمنطقة القناة وسيناء, وظيفة إشرافية بلا مضمون, أشبه بما نقوله في منتديات القاهرة شلوت لفوق! كان يمكن أن تصل رحلة الضابط حبيب إبراهيم العادلي إلي محطتها النهائية في منطقة سيناء حتي بلوغه سن المعاش في 1998. لكن القدر لعب لعبته.. لم يكن حسن الألفي مرتاحا إلي وجود اللواء مصطفي عبد القادر في مباحث أمن الدولة, لأسباب كثيرة, ليست مهمة في موضوعنا الآن, فرقاه إلي مساعد أول وزير الداخلية للأمن الاقتصادي..وأتي باللواء أحمد العادلي بدلا منه, وكان يتصور أن أحمد العادلي سيكون في منتهي الولاء له, وطوع بنانه ورهن إشارته, لكن اللواء أحمد سار في عكس الاتجاه, فهو شخصية قوية صارمة يحب ألا ينحني أو يمشي في معية شخص أو ركاب أحد أو ضمن شلة الوزير! وشلة الوزير حسن الألفي هي التي أعادت كتابة تاريخ حبيب العادلي, هي التي خططت رحلة صعوده غير المتوقعة إلي رئاسة جهاز مباحث أمن الدولة أولا, ودفعت به دفعا في الطريق, متصورة أنها اختارت مديرا روتينيا منكسرا من مطاريد الجهاز, لم يبد عليه طموح غير عادي, وهذا النوع من غير الطموحين عموما لا يشكلون خطرا محتملا في المستقبل علي أصحاب المناصب الأعلي, فإمكاناتهم محدودة, ويسهل السيطرة عليهم, وتسييرهم كيفما اتفق, لكن العادلي كان أكثر خبثا ودهاء, داهن حتي تمكن, ومع أول فرصة انتهز الرياح القوية, وأبحر بسفينته بين عمالقة الداخلية الأشداء بمهارة فائقة إلي شاطئ مصالحه, وحين رست السفينة وجلس علي كرسي العرش, تخلص منهم دفعة واحدة في قرار واحد.. فدفعوا ثمن الذكاء المفرط والتخطيط الرهيب الذي صنعوه.. ولم يتعلموا من حكمة التاريخ: من تتصوره موسي هو في حقيقته فرعون مستتر, ولم يدركوا أن مصر وقتها كانت قد بدأت تسلم نفسها بالتدريج لقيادات ضعيفة من أصحاب الأداء المتوسط كانوا يختارون بعناية لنفس الأسباب في كل موقع تقريبا.. وكالعادة دفع هؤلاء الأقوياء مراكزهم ثمنا لحسابات أخطأوا فيها, لكن بعد أن دبروا أنفسهم جيدا, وعبروا إلي الجانب الأهم من نهر الحياة اقتصاديا وماليا: عقارات وأراض وشركات سياحة وأشياء اخري!! فكان السؤال الذي فرض نفسه علي كبار الداخلية: كيف نتخلص من أحمد العادلي؟! ومن البديل الذي لا يتعبنا ولا يناطحنا رأسا برأس؟ كان التخلص من العادلي مسألة صعبة جدا, فالعادلي له ظهر يحميه هو رئيس الجمهورية, الذي يؤمن بكفاءته ويقدره ويثق فيه, وقد تعاظمت ثقة الرئيس فيه بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها حسني مبارك في يونيو1995 بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا. ودارت ماكينة البحث في كل اتجاه, وعن كل الأسماء المتاحة, حتي اهتدت إلي البقعة البعيدة في سيناء: حبيب إبراهيم العادلي! لكن بقيت معضلة: كيف نأتي ب مساعد وزير يشغل وظيفة هامشية إلي أرفع جهاز أمن في الداخلية؟! وكان الحل بسيطا للغاية: ننقله إلي وظيفة مهمة يلمع فيها بضعة أشهر أولا؟! وبعد فشل محاولة اغتيال الرئيس مبارك بأربعة أشهر فقط, وجد حبيب العادلي نفسه مديرا لأمن القاهرة( العاصمة), من الوظائف الحلم لأي ضابط.. كان أداء العادلي مثار سخرية من ضباط الداخلية المحترفين, فمن نصيبه كانت انتخابات مجلس الشعب1995, ومازالوا يذكرون له تصريحات إذاعية تفطس من الضحك وتمكنت مديرية أمن القاهرة من ضبط سيارة محملة بكميات من الزلط والأسمنت لاستخدامها في إفساد العملية الانتخابية من جانب العناصر المناهضة لكن لا السخرية ولا التندر ولا عربات الاسمنت ولا قذف الزلط في الانتخابات عاقت حبيب العادلي عن الوصول إلي رئاسة أمن الدولة.. كان تخطيط الشلة مثل القطار الرصاصة ينطلق نحو هدفه.. وكان أحمد العادلي علي الجانب الآخر يعد عدته, ويكاد يشعر بملمس مقعد وزير الداخلية تحته مع مطلع كل شمس, وكان يتوقع صدور قرار الرئيس بين لحظة وأخري, ليحيلهم جميعا إلي جهاز الكسب غير المشروع! لكن تدبير الشلة هو الذي نجح..إذ اصطادوا أحمد العادلي من أضعف نقطة في نفسية الرئيس مبارك. أقل من خمسة اشهر فقط شغل فيها حبيب العادلي منصب مدير أمن القاهرة, رفع خلالها وزير الداخلية تقريرا مرفقا به تسجيلات إلي الرئيس يفيد أن مدير جهاز أمن الدولة يتنصت عليه وعلي أسرته.. في صباح اليوم التالي من وصول التقرير إلي القصر الرئاسي في مصر الجديدة, رن التليفون الاحمر في مكتب وزير الداخلية, وجاءه صوت الرئيس غاضبا: من الذي يتولي وزارة الداخلية؟! استشعر حسن الألفي الخجل.. وقال: أحمد العادلي يسبب لي متاعب كثيرة علي طول الخط, وكنت عايز أمشيه. سأله الرئيس سؤالا هو في حد نفسه إجابة: وما الذي يمنعك؟! كان الرئيس قبلها مقلوبا علي أحمد العادلي إلي حد ما, بسبب قضية سفينة محملة بسلاح وقادمة من إيطاليا, وكانت المخابرات العامة ترصدها من ميناء الخروج في طريقها إلي الشرق الأوسط, وتتابع خطواتها لمعرفة صاحب الشحنة, وتصادف أن كان لأمن الدولة مصدر علي متن السفينة, فترقب وصول السفينة, وفور رسوها قبضوا عليها, وصادروا سلاحها, وأسرع احمد العادلي يزف الخبر الهائل إلي رئيس الجمهورية, فما كان من الرئيس إلا أن طلب عمر سليمان رئيس المخابرات يسأله في أمر السفينة وكيف غفل عنها, فرد سليمان بأنه سبق وأبلغ الرئيس شفاهة بخبرها قبل فترة, في أثناء الاصطفاف لاستقبال رئيس دولة الإمارات العربية, وأن تصرفات أمن الدولة دون التنسيق مع المخابرات أفسد علينا معرفة الهدف النهائي لها. بعد مكالمة الرئيس.. أصدر الوزير حسن الألفي قرارا بإنهاء خدمة أحمد العادلي وتعيين حبيب العادلي خلفا له علي عرش مباحث أمن الدولة كما كان مخططا من قبل! أما أحمد العادلي فقد اهانوه, وأغلقوا الدور الذي يقع فيه مكتبه, ليغادر في أسانسير الجنود والافراد, وليس في الاسانسير الخاص بكبار الضباط!