فركت عينى .. عركت أذنى أكثر من مرة وأنا أشاهد المقطع عبر الإنترنت، أعدته عدة مرات لأتأكد أنه ليس مفبركا ولا مدبلجا، وليس قصا ولصقا وتركيبا لصور وكلام لتزييف واقع، إنه حقيقى معاصر بعد ثورة 25 يناير، وليس مشهدا من فيلم تاريخى يعود إلى عهد الاحتلال العثمانى ولا حتى الاحتلال الانجليزى لمصر وعهد الإقطاع . فها هو الشخص المهم " الرتبة " يقف وسط رجاله الأشاوس من ضباط وجنود فى محافظة البحيرة ليقول للجمع فى ثقة " قول الخديو توفيق للشعب المصرى عام 1881" أنتم عبيد إحساناتنا " ولكن اللواء قال نفس المعنى بعبارة أخرى، فقال لرجاله قاصدا الشعب المصرى" إحنا أسيادهم، واللى يعض إيد أسياده ينضرب بالجزمة ونقطع له إيده، إحنا رجالة، ومافيش أى ... " كلمة خارجة أعفى القارئ من ذكرها " يقدر يقرب منكم، وكل اللى بيتقال ده شائعات اللى يقولك مساعد وزير هرب وده بيتحاكم، كلها شائعات، وهو مخطط عشان الناس تستولى على البلد والسلطة " . هكذا نفخ سيادته روح الهمة والعزيمة فى رجال الشرطة ليكافحوا الشعب بمنطلق السيد والعبد، بمنطق الخديو توفيق قبل أكثر من قرنين من الزمان، وأقول له قول الزعيم أحمد عرابى للخديو" لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارًا، والله لن نستعبد أو نورّث بعد اليوم" . ولعل سيادته استدرك أن عيونا قد ترقبه وآذانا قد تسمعه، وتسجل له حتى من بين رجال الشرطة أنفسهم ما يقوله، فحاول الاستدراك بتوصية رجاله بمعاملة المواطن معاملة حسنة، لذر الرماد بالأعين . إنه ذات منطق السيد والعبد الذى تعامل به رجال الشرطة على مدى 30 عامًَا مضت، كرسوا خلالها كل جهودهم لحماية النظام ورجاله، وتكميم أفواه الشعب، واستخدام الكرباج وآلات التعذيب والكهرباء فى مقار أمن الدولة، ناهيك عن هتك العروض لإذلال رقاب الرجال، بهذا المنطق فقدَ رجال الشرطة مصداقيتهم لدى الشعب، ونشبت العداوة لتستفحل لدى المواطنين، فأصبح مجرد التفكير فى ارتياد قسم شرطة للإبلاغ عن سرقة أو فقدان شىء، نوعا من المغامرة التى لا يحمد عقباها ولا يعرف مداها ونهايتها إلا الله . بمنطق السيد والعبد نشأت الخصومة، فأصبح المواطن يرى فى رجل الشرطة عدوا، لا حصنا للأمان ويدا قوية لتكريس الأمن ومحاربة الجريمة، فأصبح لكل ضابط " ألاضيشه " ومخبريه ، ومرشديه الذين يتجسسون على البسطاء فى الأحياء، وينقلون الأخبار الزور، ويوقعون بالأبرياء فى خصومات شخصية فى تلفيق فاضح للتهم والقضايا، وأصبح كل جندى أو أمين شرطة ولن أقول ضابطًا برتبة، أصبح سيدا مستأسدا على الحى الذى يقطنه، لا يستطيع أى شخص أيًا كان مركزه من المواطنين العاديين أن يقترب منه، أو يراجعه، أو يقول له " ثلث الثلاثة كام " على غرار بطل فيلم " هى فوضى ". بمنطق السيد والعبد وقف مدير أمن البحيرة ليذلنا ويمن علينا بأن المواطنين كانوا يصرخون من الخوف عندما اختفى الأمن من الشارع المصرى فى مؤامرة انسحاب الشرطة، وكأن رجال الشرطة بمصر يقدمون خدمة فريدة لا يعرفها العالم، خدمة لا يتقاضون عليها أجرًا، شأنها شأن أى عمل أو وظيفة أخرى يحتاج إليها المجتمع، ولو طبقنا هذا المنطق، لمن علينا الخبّاز بأنه يأكلنا عيشا، ومنّ علينا عامل البناء بأنه يبنى لنا بيوتا لنسكن، ولمنّ علينا النساج بأنه يمنحنا ما يستر عوراتنا عن عيون العباد، ولمنّ علينا الصراف بأنه يعطينا مالا" من بيت أبوه " لنأكل ونشرب ونعيش، وهكذا . لقد نسى سيادته أن وظيفته فى الشرطة، هو الذى اختارها بنفسه باختياره دخول كلية الشرطة، ولم يطلب منه الشعب ذلك، ولو تفضل سيادته وتخلى عن حلمه فى أن يكون ضابطا، لاسترحنا من المذلة والمن، لأن هناك ملايين غيره يحلمون بهذه المهنة، لأنها مهنة محترمة لها مكانتها، لخدمة أبناء وطنهم بتحقيق الأمن ومكافحة الجريمة . كما نسى سيادته أن هذا الشعب الذى يرى نفسه سيدا عليه، قام بكل قوة وصبر السنين السود فى حماية مصر أيام مؤامرة الانسحاب الأمنى فى 28 يناير، وتحول كل مصرى إلى ضابط أمن، بل جندى فدائى، يواجه المجرمين والمساجين الذين أطلقهم رجال الشرطة أنفسهم ليعيثوا فى قلب المدينة الرعب والفساد، وقام المواطنون بالقبض على المساجين، والتصدى للبلطجية، ومنهم من دفع روحه فداءً لأهل الحى لحماية الأملاك والأعراض، فعل كل مواطن ذلك دون أن يتقاضى أجرًا آخر الشهر، ودون أن يمن على أهل الحى بأنه يحميهم فى وقت الفراغ الأمنى . فى الواقع لست مندهشة تماما من خطاب السيد اللواء لرجاله، واعتبار رجال الشرطة أسياد والشعب عبيد، لأن هذا المنطق استمده وورثه من نظام جثم على صدورنا طويلا، كان فيه رأس النظام عسكريا، يحكم شعب مصر فى ظل دولة بوليسية بحتة، وكانت هذه لغة الخطاب المتعارف عليها، ولكن ما أدهشنى استمرار ذات المنطق وذات لغة الخطاب بعد انتصار الشعب فى ثورة ميدان التحرير، وكنت أعتقد أن انتصار الشعب للحرية والديمقراطية، من شأنه أن يعكس رياحا من التغيير الإيجابى على هؤلاء الذين تمسكوا بمناصبهم ومواقعهم المهمة، أو أبقتهم حكومة أحمد شفيق، ولم تطولهم حملة التطهير . كنت أعتقد أن هؤلاء استوعبوا الدرس، وأن عليهم التأقلم مع مستجدات عهد الثورة، وتغيير أنفسهم بأنفسهم، وتغيير منطقهم المتعالى المتعجرف الذى بموجبه أطلقوا أيديهم سنينا على رقاب العباد" عباد الله وليس عبيدهم"، تغيير منطقهم بعد أن رفع الشعب المصرى رأسه عاليا، ليس على أرض مصر فقط، بل بين دول العالم، التى باتت تصفق إعجابا وتقديرًا لأى شخص يحمل جواز سفر مصرى يصل إلى مطاراتها . ما قاله مدير أمن البحيرة، وما وقع فى ضاحية المعادى من إطلاق ضابط شرطة النيران على سائق ميكروباص بسبب أسبقية عبور السيارة، وما حدث من مسئول الشرطة فى شبرا المظلات عندما استنجد به المواطنون لإنقاذهم من البلطجية سخر منهم وقال لهم " احترام حقوق الإنسان تمنعنا من ملاحقة البلطجية " لإذلال الشعب لمطالبته باحترام حقوق الإنسان، كل هذا وغيره مما خفى، يؤكد لنا ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة وحاسمة فى قطاع الشرطة، فالحل القطاعى بإقالة أو نقل أى مسئول يضبط بالجهر بهذا المنطق الاستعبادى كما حدث مع مدير أمن البحيرة الذى قيل لنا تارة إنه أقيل وأخرى إنه نقل، الحلول الجزئية ليست الحل، بل المطلوب إعادة صياغة التركيبة القديمة للشرطة و التى كانت سبب الخصومة مع الشعب، تبدأ الصياغة بحركة تنقلات واسعة بين ضباط أقسام الشرطة والنقاط الأمنية، لمعالجة العداء القديم الذى نشب بين هؤلاء وبين سكان الأحياء التى كانوا بها، فوجود وجوه جديدة، قد يرسى نوعا جديدا من العلاقة الجيدة بين الجانبين . ثانيا، ضرورة استعادة المواطن المصرى ثقته واحترامه لرجل الشرطة، فما يحدث الآن على أرض مصر من احتكاكات برجال الأمن واعتداءات على بعضهم أخذًا بالثأر القديم، وانتشارا للفوضى والجريمة بمعدلات عالية، وهيمنة البلطجية على العديد من الأحياء بالقاهرة، إنما مرجعه فقدان رجل الأمن لهيبته، اعتقادًا من البعض أن ثورة 25 هى إطلاق للحريات بلا قيود إلى حد الإفراط والتفريط، وأن الثورة فوق القانون، وتخول للشعب إهانة ومحاكمة رجال الشرطة على تجاوزاتهم السابقة، وهو خطأ كبير، فلو فقد رجل الشرطة هيبته واحترامه، قل على الأمن فى مصر السلام . ولكن حتى يستعيد رجل الشرطة هيبته، عليه الاحتكام إلى سيادة القانون، لا إلى منطق السيد والعبد، فما معنى أن ينهال رجال الشرطة بالضرب على لص بعد القبض عليه حتى يدمى وجهه، وما معنى أن يسب الضابط محتجزا وهو مقيد بالحديد فى طريقه للنيابة، يسبه بأقذع الألفاظ ويركله بحذائه لإذلاله، تحت زعم تأديبه، أليس القانون وحكم السجن الذى ينتظره كافيا بتأديبه، إن سيادة القانون هى الحامى والرادع للمجرمين، وهى الحامى والمعيد لهيبة رجال الشرطة، تلك التى اهتزت بعد ثورة 25، وبدقة أكثر، اهتزت مع تنفيذهم سيناريو الانسحاب الأمنى من الشارع المصرى . ثالثا, يجب تطهير قطاع الشرطة من الرءوس الفاسدة كثرت أم قلت، وإحالتهم إلى التقاعد، والاستعاضة عن ذلك بحركة ترقيات استثنائية للضباط الشباب، فهؤلاء الشباب أكثر فهما لعقلية المواطن المصرى ما بعد الثورة، ومعظمهم دارسين للغات ومثقففين وآفاقهم واسعة، وهذا ليس تقليلا من شأن قيادات الشرطة القديمة، ولكن لكل جيل لغته، وجيل الثورة أوجد له لغة لا يعرفها كثير من قدامى الشرطة . رابعا ، إجراء دورات تدريبة بصورة مستمرة لرجال الشرطة، لتدريبهم على حسن التعامل مع المواطنين، وأن المتهم برىء حتى تثبت إدانته، وللتخلى عن أساليب العنف والقهر لانتزاع الاعترافات، وأن يفهم كل شرطى أنه فى وظيفته هذه من أجل خدمة الشعب تنفيذا حقيقيا للشعار الجديد الذى رفعته وزارة الداخلية، لا ليكون سيدهم، وأن دوره فى المجتمع مهم ويتكامل مع دور كل مواطن على أرض مصر أيا كان موقعه . وعلى رجل الشارع أن يبدأ صفحة جديدة مع رجل الشرطة، وأن يتأكد أن احترامه هو احترام للقانون الذى يمثلة الشرطى، وأن أى اعتداء عليه يمثل اعتداءً على القانون، وأن هيبته لو ضاعت لضاع الأمن، وفى هذا يتم إجراء محاكمات عاجلة وعادلة لكل من تسول له نفسه الاحتكاك أو الاعتداء برجال الشرطة ، وأركز هنا على كلمة " محاكمة عادلة " بموجب شهود إثبات ليسوا تابعين لرجال الشرطة أنفسهم . على كل رجل شرطة، وكل مواطن، أن يفهم أن سيادة القانون هى التى يجب أن تحكمنا وتحمينا من الظلم والقهر والاستبداد، وليس علاقة الأسياد بالعبيد، لأننا يا سيادة مدير امن البحيرة قد ولدتنا أمهاتنا أحرارًا ولن نستعبد أو نورث بعد اليوم .