جاء قرار البرلمان المصري بشأن تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد مخيبا للآمال، ومعبرا في الوقت ذاته عن تلاعب الأغلبية العددية بمستقبل هذه الأمة، بعد أن لحست وعودها السابقة بتشكيل جمعية يتوافق حولها الجميع، وهو أمر يهدد بأزمة دستورية يمكن أن تعطل التحول السياسي والعودة بنا إلي نقطة الصفر. ما جري في بداية هذا الأسبوع خلال الاجتماع المشترك لمجلسي الشعب والشوري لوضع ضوابط اختيار الجمعية التأسيسية يمثل اختطافا للدستور من منطلق الأغلبية العددية بعد اتفاق الإخوان والسلفيين علي هذا النحو، وهو أمر يشكل انتكاسة سياسية خطيرة، وحنث بكل الوعود والعهود التي قطعوها علي أنفسهم ووقعوا عليها في وثيقة التحالف الوطني من أجل مصر التي ضمت ثلاثة وأربعين حزبا سياسيا قبل إجراء انتخابات مجلسي الشعب والشوري!! هذه الوثيقة جاءت محددة الأهداف وفي مقدمتها أكدت حشد جهود وطاقات أعضاء هذا التحالف من الأحزاب والقوي السياسية والحركات الشبابية واتحادات وائتلاف شباب الثورة ومنظمات المجتمع المدني وكل القوي الفاعلة في المجتمع للتأسيس لدستور جديد، يؤسس لدولة المواطنة والقانون في جمهورية ديمقراطية حديثة يتساوي فيها المصريون جميعا في الحقوق والواجبات، وينعمون بالحرية والعدالة وتكافؤ الفرص والأمان.. ثم جاء بعد ذلك تحديد المبادئ التي يهتدي بها التحالف لتحقيق هذه المبادرة في شتي المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. إلا أن ما جاء في اجتماع البرلمان عكس ذلك، وكشف النوايا الحقيقية لهذه التيارات،وأعاد لنا ذكريات الماضي القريب عندما كان يستأثر الحزب الوطني بسنّ القوانين والتشريعات اعتمادا علي أغلبيته العددية. الخطورة الآن أن استخدام الأغلبية العددية، لم يكن في تمرير بعض القوانين.. وإنما في أمر أكبر من ذلك بكثير وهو الدستور القادم، وكلنا يعلم أن الدستور أكبر من البرلمان والكتل السياسية، ويوضع بهدف تحديد هوية الدولة ونظامها السياسي ولعدة أجيال.. بينما البرلمان متحرك ومتغير، وأي تيار سياسي يشكل أغلبية الآن يمكن أن يصبح أقلية في المجلس القادم، ومن هنا جاء ما يتعارف عليه بأن الدستور يوضع بتوافق مجتمعي عام، وما حدث في اجتماع البرلمان السبت الماضي يشكل إهدارا لحقوق معظم طوائف المجتمع، لأن استئثار البرلمان بنسبة النصف من الجمعية التأسيسية، سوف يعني استئثار التيار الإسلامي أيضا من خلال الانتخابات الشكلية بالأغلبية المطلقة من هذا النصف بحكم الأغلبية العددية.. ويبقي النصف الثاني من خارج البرلمان، الذي لا يكفي لتمثيل المرأة والأقباط والاتحادات والنقابات المهنية والعمالية والفلاحين، ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات العامة وأساتذة القانون الدستوري، وكذلك بعض الهيئات مثل القضاء والجيش والشرطة والجامعات ومراكز الأبحاث، وبعض الأحزاب التي لا يوجد بها ممثلون داخل البرلمان.. ويضاف فوق كل هذا أن النصف الثاني سوف ينتخب من نفس الأغلبية العددية التي يسيطر عليها التيار الإسلامي!! باختصار.. ما حدث هو أن البرلمان يختار نفسه في شأن لا يملكه وهو الدستور، وهو أمر يمثل نكسة سياسية خطيرة قابلتها بعض القوي بالطعن في دستوريتها، ويقابلها المجتمع بالرفض والاشمئزاز وهو أمر يهدد بأزمة دستورية من المؤكد أنها يمكن أن تعطل عملية التحول السياسي والديمقراطي.. ويجب علي التيار الإسلامي الذي اختطف البرلمان في لحظات الغضب الثوري واللعب بالدين أن يعي أن الثورة مستمرة واستعجال خطف السلطة المطلقة سوف يستدعي روح الثورة الكامنة في كل النفوس، والمتحفزة للعودة مرة أخرى الي ميدان التحرير وكل ميادين مصر، وهذه المرة لن تجدي كل الألاعيب لتحقيق قليل من المكاسب التي حققوها بعد أن تكشفت بعض النوايا الحقيقية.