كتب:مجدى سلامة من يعرف تاريخ الإسماعيلية، لا بد أنه يعرف جيداً من هو «جلال عبده هاشم».. هو الفنان الذى قرر أن يحول الشظايا وبقايا القذائف التى تعرضت لها الإسماعيلية إلى تماثيل تعبِّر عن صمود الإسماعيلاوية فى وجه العدوان، ومن 4500 شظية جمعها خلال الحروب التى شهدتها الإسماعيلية حتى عام 1967 شيَّد تمثال الصمود، ومن آلاف الشظايا الأخرى التى جمعها بين عامى 1967 و1973 صنع تمثال التحدى، وكلا التمثالين صار حالياً من أشهر معالم الإسماعيلية. الرجل نفسه، شاء له القدر أن يكون شاهد عيان على معركة الشرطة مع قوات الاحتلال الإنجليزى عام 1952، كما كان له حكاية مثيرة مع ثلاثة من ضباط الشرطة الذين خاضوا المعركة. فى مكتبه الكائن بالحى الأفرنجى بمدينة الإسماعيلية التقيت الفنان «جلال عبده هاشم»، وسألته أولاً عن حكاية تمثالى الصمود والتحدى؟.. فقال: ما فعله الفدائيون وشباب الإسماعيلية فى مواجهة الاحتلال والعدوان، كان أشبه بالأساطير، ولهذا رحت أبحث عن فكرة غير مسبوقة يمكن من خلالها تخليد هذه البطولات لتظل باقيةً أمام جميع الأجيال القادمة، ومن هنا جاءت فكرة تجميع شظايا القنابل والقذائف التى تعرضت لها الإسماعيلية على مدى عدة عقود، ومن 4500 شظية جمعها كل أبناء الإسماعيلية، شيدت تمثال الصمود عقب نكسة 1967، ومن آلاف الشظايا الأخرى شيدت تمثال التحدى عقب نصر أكتوبر المجيد، وبالمناسبة كانت كل شظية من هذه الشظايا تحمل قصة، تستحق أن تروى، فكل شظية منها كانت ملتصقة بجزء من جسد أحد أبناء الإسماعيلية كنت شاهد عيان على معركة الشرطة من قوات الاحتلال الإنجليزى يوم 25 يناير عام 1952، ماذا رأيت فى هذا اليوم؟ - الفنان جلال عبده هاشم: هذا اليوم لا يمكن أن أنساه أبداً، خاصة يوم عيد ميلادى الحادى عشر، وكانت والدتى قد وعدتنى فى صباح اليوم أن تحضر لى هدية ثمينة، وأن تجهز لى تورتة كبيرة، ومن فرحتى خرجت إلى الشارع؛ ابتهاجاً بما سيحدث فى هذا اليوم، ولكن القدر كان يحمل لى شيئاً لم يخطر ببالى، وهو أن يقع معركة كبيرة بين رجال الشرطة المصرية مع قوات الاحتلال الإنجليزى.. وهذه المعركة كان لها مقدمات واضحة. وما تلك المقدمات؟ - مقدمات المعركة بدأت بعدما ألغى مصطفى باشا النحاس، رئيس حزب الوفد، ورئيس وزراء مصر وقتها، معاهدة 1936 مع الإنجليز، وبدأ الكفاح المسلح للفدائيين ضد قوات الاحتلال الإنجليزى فى منطقة القناة، وكان الفدائيون ينصبون فخاخاً للإنجليز ليستولوا على أسلحتهم، ولمواجهة ذلك قرر الإنجليز ربط سلاح كل جندى وضابط إنجليزى بسلسلة، وربط الطرف الثانى للسلسلة فى يد الجندى أو الضابط، كما وضعوا عموداً حديدياً ذا حافة حادة فى مقدمة جميع سياراتهم، لقطع أى فخ ينصبه الفدائيون فى الطرقات، لسيارات الإنجليز. ورغم كل ذلك لم تتوقف عمليات الفدائيين، فكانوا يخطفون الجنود بأسلحتهم المربوطة فى أيديهم، وكانت عملية عربة البرتقال من العمليات الكبرى التى جننت الإنجليز. وماذا حدث فى عملية عربة البرتقال؟ - مع بدء الكفاح المسلح للفدائيين، توقف كل التجار عن تزويد معسكرات الإنجليز بالخضراوات والفاكهة، كما ترك المصريون العاملون فى معسكرات الإنجليز عملهم، وكان عددهم يزيد على 90 ألف مصرى، وهؤلاء جميعاً قالوا «مش معقول الفدائيين يضحوا بأرواحهم فى قتال الإنجليز وإحنا نظل نعمل فى معسكراتهم»، وقالوا أيضاً «إحنا نموت من الجوع ولا نعمل مع الإنجليز»، وعندها غضب الإنجليز بشكل غير مسبوق، وفى هذه الأثناء قاد اثنان من الفدائيين عربة مملوءة بالبرتقال، ودخلا معسكرات الإنجليز على أنهما يعرضان البرتقال للبيع، وفرح الإنجليز بالبرتقال، وتهافتوا على العربة طالبين الشراء، وعندها افتعل الفدائيان معركة وهمية بينهما، فضرب أحدهما الآخر على وجهه، ثم جرى مسرعاً بعيداً عن العربة، ولحقه الثانى وكأنه يطارده، فيما انشغل الإنجليز بالبرتقال، وفى لحظة انفجرت العربة، فقتلت كل من حولها من الجنود الإنجليز، فلقد كان أسفل البرتقال قنابل موقوتة انفجرت فور ابتعاد الفدائيين عن المكان، وبعد هذه المعركة «اتجنن» الإنجليز، وقرروا ترحيل كل رجال البوليس عن منطقة القناة، لمساندتهم الفدائيين، ولهذا حاصروا قسم شرطة البستان ليجبروهم على تسليم أسلحتهم ومغادرة منطقة القناة والعودة للقاهرة.. وهو ما رفضه البوليس المصرى، ووقعت معركة بين الطرفين فى 25 يناير 1952. وكنت أحد شهودها؟ - نعم.. كنت قد خرجت إلى الشارع فى هذا اليوم فرحاً بعيد ميلادى وأمنى نفسى بهدايا كثيرة من والدتى ووالدى فى هذا اليوم، ولكنى فوجئت بوجود الدبابات الإنجليزية فى الشوارع، وبحصار أكثر من 7 آلاف جندى وضابط إنجليزى لقسم شرطة البستان، ووجهوا إنذاراً لرجال الشرطة بالاستسلام وتسليم أسلحتهم، ولكنهم رفضوا فبدأ القصف الإنجليزى لقسم الشرطة، وكان المشهد مروعاً.. كان حرباً بمعنى الكلمة، ولكنه كان بين فئتين غير متكافئتين، فى العدد والعتاد، فكان مع الإنجليز دبابات ومدفعية، ورشاشات، وعددهم أكثر من 7 آلاف جندى وضابط، بينما كان عدد رجال الشرطة المصرية أقل من 900 جندى وضابط ومساعد شرطة، وكل ما لديهم من أسلحة هو بندقية قديمة، لا تحمل «خزنة» كل منها سوى 10 طلقات فقط، ورغم التفاوت الكبير بين القوتين، صمد رجال الشرطة المصرية واستبسلوا فى القتال، وأسقطوا قتلى وجرحى فى صفوف القوات الإنجليزية، ولم يتوقف القتال إلا بعد أن نفدت أسلحة الشرطة المصرية.. وهناك دليل قاطع على أن الشرطة المصرية «وجعت» الإنجليز فى هذه المعركة. وما هو؟ - بعد المعركة تم السماح بنقل المصابين للمستشفيات، وبدء إجراءات دفن الشهداء، ولكن الإنجليز أصروا على اعتقال عدد من رجال الشرطة، وهنا تضامن الأهالى مع رجال الشرطة، وهناك واقعة مثيرة مع 3 ضباط مصريين من هؤلاء. وما الواقعة؟ - كان ثلاثتهم من بين الضباط الذين أراد الإنجليز اعتقالهم، وكان أحدهم صديقاً لوالدى، فلما لجأوا إلى والدى استضافهم فى منزلنا، وأعد لهم ملابس مدنية، وتولت والدتى «تظبيط» هذه الملابس لتناسبهم، وأقنع والدتى بضرورة الاختباء لمدة يومين، حتى تهدأ هوجة مطاردتهم من الإنجليز، وأخفاهم والدى فى مكان لم يكن يخطر على بال أحد، فلقد كان والدى يمتلك 3 شقق تم تأجيرها لعائلات إنجليزية، ولما وقعت معركة 25 يناير 1952، غادرت الأسر الإنجليزية الإسماعيلية؛ خوفاً من تداعيات المعركة عليهم، على الفور قرر والدى إخفاء الضباط الثلاثة فى إحدى الشقق المؤجرة للإنجليز، وهو مكان لا يتخيل أحد وجود ضباط مصريين فيه وكنت وشقيقى نحمل لهم الطعام، ونحرص ألا يرانا أحد.. وظل الضباط الثلاثة مختبئين فى هذا المكان لمدة يومين؛ حتى تم تدبير طريقة آمنة لإخراجهم من الإسماعيلية دون أن يقعوا فى يد القوات الإنجليزية التى كانت تسيطر على منطقة القناة كلها، ولا تسمح لأحد بدخولها أو الخروج منها إلا بعد الحصول على إذن منها. وماذا حدث فى اليوم التالى للمعركة؟ - خرجت الإسماعيلية كلها فى مظاهرات كبيرة، وتم تشييع جثامين الشهداء فى مشهد مهيب.. وأذكر وقتها أننى حفظت عدداً من الشتائم باللغة الإنجليزية، وكنت أوجهها لكل من يقابلنى من رجال الاحتلال الإنجليزى. أما فى القاهرة فقد تم حرق القاهرة فى اليوم التالى للمعركة، ولا أتجاوز الحقيقة إذا قلت إن معركة 25 يناير 1952 كانت أحد الأسباب الرئيسية فى اندلاع ثورة 23 يوليو 1952.