نقيب الصحفيين يكشف تفاصيل لقائه برئيس الوزراء    بكام الفراخ البيضاء؟ أسعار الدواجن والبيض في الشرقية اليوم الجمعة 24 مايو 2024    أستاذ اقتصاد: التعويم قضى على الطبقة المتوسطة واتمنى ان لا أراه مرة أخرى    الشرطة: نحو 50 محتجا يواصلون الاختباء بجامعة ألمانية    عائشة بن أحمد تعلن اعتزالها التمثيل مؤقتا: شغل دلوقتي لأ.. عايزة استمتع بحياتي شوية    أوقاف الفيوم تنظم أمسية دينية فى حب رسول الله    شخص يحلف بالله كذبًا للنجاة من مصيبة.. فما حكم الشرع؟    خالد جلال: جوميز ركز على الكونفدرالية فقط.. وهذه نصيحتي لفتوح    انتهاء الموجة الحارة.. الأرصاد الجوية تكشف حالة الطقس اليوم    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    عائشة بن أحمد تكشف سر العزوبية: أنا ست جبانة بهرب من الحب.. خايفة اتوجع    هشام ماجد: «اللعبة 5» في مرحلة الكتابة.. وهذه قصة صداقتي مع شيكو    فلسطين.. تجدد القصف المدفعي الإسرائيلي على المناطق الشرقية لدير البلح وسط قطاع غزة    هيثم عرابي: فيوتشر يحتاج للنجوم.. والبعض كان يريد تعثرنا    السفير رياض منصور: الموقف المصري مشرف وشجاع.. ويقف مع فلسطين ظالمة ومظلومة    بوتين يصل إلى بيلاروس في زيارة رسمية تستغرق يومين    كسر محبس مياه فى منطقة كعابيش بفيصل وانقطاع الخدمة عن بعض المناطق    وفد قطرى والشيخ إبراهيم العرجانى يبحثون التعاون بين شركات اتحاد القبائل ومجموعة الشيخ جاسم    الزمالك ضد فيوتشر.. أول قرار لجوزيه جوميز بعد المباراة    منتخب مصر يخسر من المغرب فى ربع نهائى بطولة أفريقيا للساق الواحدة    سيد معوض يكشف عن روشتة فوز الأهلي على الترجي    أحمد عيد: كولر ناجح في السيطرة على لاعبي الأهلي    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الجمعة 24 مايو 2024    إصابة 5 أشخاص إثر حادث اصطدام سيارة بسور محطة مترو فيصل    «حبيبة» و«جنات» ناجيتان من حادث معدية أبو غالب: «2 سواقين زقوا الميكروباص في الميه»    متحدث الوزراء: المجلس الوطني للتعليم والابتكار سيضم رجال أعمال    تمنحهم رعاية شبه أسرية| حضن كبير للأيتام في «البيوت الصغيرة»    وفاة إيراني بعد سماعه نبأ تحطم مروحية رئيسي، والسر حب آل هاشم    تشييع جثمان شقيق مدحت صالح من مسجد الحصرى بعد صلاة الجمعة    أصداء «رسالة الغفران» في لوحات عصر النهضة| «النعيم والجحيم».. رؤية المبدع المسلم وصلت أوروبا    الهندية كانى كسروتى تدعم غزة فى مهرجان كان ب شق بطيخة على هيئة حقيبة    بايدن: لن نرسل قوات أمريكية إلى هايتى    وزير خارجية السعودية يبحث هاتفيًا مع رئيس وزراء فلسطين الأوضاع فى الضفة وغزة    سورة الكهف مكتوبة كاملة بالتشكيل |يمكنك الكتابة والقراءة    يوم الجمعة، تعرف على أهمية وفضل الجمعة في حياة المسلمين    شعبة الأدوية: التسعيرة الجبرية في مصر تعوق التصدير.. المستورد يلتزم بسعر بلد المنشأ    الصحة العالمية تحذر من حيل شركات التبغ لاستهداف الشباب.. ما القصة؟    بعد تثبيت الفائدة.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الجمعة 24 مايو 2024    وفد قطري يزور اتحاد القبائل العربية لبحث التعاون المشترك    خبير سياسي: اللوبي الصهيوني حول العالم يمول الإعلام الغربي    سعر الدولار مقابل الجنيه بعد قرار البنك المركزي تثبيت أسعار الفائدة    المعمل الجنائي يفحص آثار حريق داخل محطة تجارب بكلية الزراعة جامعة القاهرة    مقتل مدرس على يد زوج إحدى طالباته بالمنوفية: "مش عايزها تاخد دروس"    إخفاء وإتلاف أدلة، مفاجأة في تحقيقات تسمم العشرات بمطعم برجر شهير بالسعودية    استقالة عمرو أنور من تدريب طنطا    «صحة البرلمان» تكشف الهدف من قانون المنشآت الصحية    افتكروا كلامي.. خالد أبو بكر: لا حل لأي معضلة بالشرق الأوسط بدون مصر    إصابة فتاة إثر تناولها مادة سامة بقنا    خبطة في مقتل.. تفاصيل ضبط ترسانة من الأسلحة والمخدرات بمطروح    "قمة اليد والدوري المصري".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    حظك اليوم برج الحوت الجمعة 24-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. فرصة للتألق    حظك اليوم برج الجدي الجمعة 24-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    لمستخدمي الآيفون.. 6 نصائح للحفاظ على الهواتف والبطاريات في ظل الموجة الحارة    «فيها جهاز تكييف رباني».. أستاذ أمراض صدرية يكشف مفاجأة عن أنف الإنسان (فيديو)    انتهاء فعاليات الدورة التدريبية على أعمال طب الاسرة    انعقاد الجلسة الخامسة لمجلس جامعة الدلتا التكنولوجية    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال    رئيس الوزراء يناقش سبل دعم وتطوير خدمات الصحفيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغلو فى الدين... الأساس الفكرى لجماعات الإرهاب والتطرف (2-5)
نشر في الوفد يوم 24 - 01 - 2018


كتب: محمود على
نواصل اليوم مناقشة ظاهرة الغلو في الدين، من خلال بيان الاسباب الظاهرة والكامنة وراء انتشارها، حيث يتفق غالبية الفقهاء والباحثين على وجود أسباب ودوافع متنوعة ومتعددة وراء تعاظم وتزايد هذه الظاهرة خلال العقود الأخيرة، سواء كانت أسبابًا فكرية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية أو تربوية.
وهو ما أدى إلى نجاح هذه الجماعات فى استغلال قطاعات واسعة من الشباب المنخدع بشعاراتها، مستغلة فى ذلك غياب المرجعية الدينية الصحيحة لديهم، وقدرتها على تشويه علماء الامة باعتبارهم علماء تابعين للسلطة، وتعقد وتشابك الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وانتشار الفساد والفقر وتدنى القيم والأخلاق، فيسقط الشباب في شباك خيوطها العنكبوتية، وهم يظنون انهم يحسنون صنعا، باعتبارهم جند الله المكلفين بتطبيق شرعه وإقامة دولة الخلافة على الارض، في مواجهة المجتمع الكافر الذين يستحلون دماءه وأعراضه وأمواله.
والواقع أن الجهل بقواعد الدين ومقاصد الشرع، تعد أهم وأخطر هذه الاسباب، لان مقاصد الشريعة بنيت على التيسير ورفع الحرج عن العباد، وهذا الجهل يعود للقصور في فهم نصوص الشريعة من خلال نظرة جزئية حرفية لظاهر النص، وعدم استيعاب المقاصد الحقيقية لروح الشريعة، والتشدد في استنباط الأحكام الشرعية دون ضابط وعلم بأصول وقواعد الفقه، لذا يقول الإمام «الشاطبي» حول مسألة الجهل «إن لها أسبابًا ثلاثة قد تجتمع، وقد تفترق... أحدها: أن يعتقد الإنسان في نفسه، أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم، والاجتهاد في الدين، ولم يبلغ تلك الدرجة، فيعمل على ذلك، ويعد رأيه رأياً، وخلافه خلافاً، ولكن تارة يكون ذلك في جزئى، وفرعٍ من الفروع، وتارة يكون في كلي وأصل من أصول الدين، كان من الأصول الاعتقادية، أو من الأصول العملية، فتارة آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها حتى يصير منها ما ظهر له باديء رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها، وهذا هو المبتدع، وعليه نبه الحديث الصحيح انه [ قال «لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».
واليوم تعرض «الوفد» عبر «مرصد مكافحة الإرهاب»، لأسباب الغلو المختلفة طبقاً لمجموعة من الدراسات الهامة في هذه المسالة، بالإضافة الى تقديم رؤية مستنيرة لمفهوم الدعوة، وبيان قواعد اليسر والتيسير التى حفلت بها الشريعة الإسلامية.
فكر التشدد يقوم على الجهل بمراتب الأحكام والأخذ بظاهر النصوص
يقول الفقهاء إن أهل السنة والجماعة توفقوا على قاعدة أن الإيمان هو قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو ما دلت عليه الآيات والأحاديث دلالة صريحة، وقالوا إن «كل نص يدل على زيادة الإيمان فإنه يتضمن الدلالة على نقصه وبالعكس، لأن الزيادة والنقصان متلازمان لا يفعل أحدهما بدون الآخر».
بينما تعتقد جماعات الخوارج وغيرهم «أن الأعمال من الإيمان فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه، لأن الإيمان لا يتبعض، ولا يكون فى العبد إيمان ونفاق، فيكون أصحاب الذنوب مخلدين فى النار»، ويرجع هذ الاعتقاد المتطرف إلى إيمانهم باستحالة كون المسلم مستحقاً للثواب والعقاب معاً، لأنهم يعتبرون أن «الإيمان هو الطاعة، فيزول بزوال بعض الطاعة»، وأنه «متى ذهب بعضه ذهب كله»، وهو ما لا يقبله إجماع الفقهاء الذى يقول «ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرا الكفر المطلق».
بالإضافة إلى أن جهل الخوارج بمراتب الأحكام له أثره المباشر فى الحكم على الناس، فالنصوص تشير إلى أن أهل الكبائر لا يخلدون فى النار، وأنهم تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنهم وإن شاء عذبهم حتى يتطهروا منها، بينما الخوارج كفروا مرتكب الكبيرة كفراً يخرج من الملة بالكلية، وكفروا كذلك مرتكب المعصية، وحكموا عليه بالخلود فى النار.
وأما فى الجانب المنهجى فقد انحرف الخوارج لأسباب منها عدم الجمع بين الأدلة، واقتصارهم على بعضها، خاصة أن من خصائص القرآن الكريم اتساقه وتصديق بعضه بعضاً، وعدم تناقضه لأن مصدره واحد لقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}، فعلى سبيل المثال جاء الكتاب والسنة وفيهما وعد ووعيد، والذى عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بالوعد والوعيد، فالعقاب توعد الله به العبد إذا لم يتب، فإن تاب تاب الله عليه، ومحت حسناته سيئاته، وإن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، ومن مات على الإيمان فإنه لا يخلد فى النار بينما الخوارج صدقوا بالوعيد دون الوعد، فكفروا الجميع وخلدوهم فى النار.
ولعل من أخطر أسباب انحرافهم أيضاً اتباعهم المتشابه، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أم الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الْأَلْبَابِ}، حيث جعل سبحانه اتباع المتشابه من شأن أهل الزيغ والابتداع الذين يسعون لإحداث الفتنة بتأويل ما لا يمكنهم العلم به، لذلك حذر النبى من اتباع المتشابه ومن متبعى المتشابه، بسبب اتباعهم المتشابه، فقد أخذوا قوله تعالى «إن الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ» على ظاهره، وقالوا إن ذلك يعنى ألا يحكم أحد بين المتخاصمين، لذا خرجوا على على بن أبى طالب لقبوله التحكيم أى قبوله حكم بغير ما أنزل الله، وقد رد عليهم العباس وعلى فى المناظرات معهم بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا أن يُرِيدَا إصلاحا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}، وقال العباس: «أمر الله تعالى بتحكيم حكمين فى أمر امرأة ورجل، وأمة محمد أعظم دماً وحرمة من امرأة ورجل»، لذا يقول ابن حجر على هذه الآية «إنهم انتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها».
وما زادهم انحرافاً هو الأخذ بظاهر نصوص القرآن والسنة النبوية والفهم الحرفى لها من غير تدبر ولا نظر فى مقاصدها ومواضعها، رغم جهلهم بمعرفة اللغة التى تكلم بها الشارع الحكيم، ومعرفة مقصوده من اللفظ، وهو الأمر الذى لا يفهم إلا من مجمل النصوص والرجوع إلى السنة وأقوال الصحابة، ففسروها وفقاً لأهوائهم، ومن أمثلة ذلك تفسيرهم المطلق للخطيئة والسيئة بأنها شرك تؤدى بصاحبها للنار وتخلده فيها استناداً لقوله الله: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أصحاب النَّارِ}، وذلك بالمخالفة لمجمل النصوص، فالسيئة والخطيئة تطلقان فى القرآن الكريم على الشرك فما دونه من السيئات والخطايا، وجاء فى زهرة التفاسير للإمام محمد أبوزهرة، «إن الكسب يقصد به العمل الذى يصير حالاً ثابتة قائمة مستمرة، فمن عمل خطأ لَا يقال إنه كسبه، ومن عمل إثماً عن جهالة وضلالة ثم تاب من قريب لَا يقال إنه كسبه، إنما يقال إنه كسبه إذا عمل قاصدًا مستمراً، حتى يكون له مجرى فى قلبه، وينكت فيه نكتا سوداء، فهذا هو الذى يقال له كسب السيئة، وهى كل فعل يكون أثره سيئاً فى الناس أو فى الجماعة أو فى النفس، فيفسد التقدير، ويكون وبالاً، فيظلم نفسه، والناس، ومن حوله.
والخطيئة هناك فرق بينها وبين الخطأ، فالخطأ يقع من غير قصد ابتداء، ولكن لَا يتكرر، أما الخطيئة فهى الفعل المقصود الآثم المتكرر الذى يخط فى النفس خطوطاً، حتى يصير الذنب عادة له أو كالعادة فيصدر الشر عنه وباستمرار من غير قصد خاص إليه، وكأنه يقع غير مقصود، وفى الحال تكون النفس قد أركست بالشر إركاساً، فالخطيئة حال نفسية للنفس الآثمة التى تمرست بالإثم؛ ولذا قال تعالى "وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطيئَتُهُ"، أى أن الخطيئة استولت على النفس، وصارت كأنها قبة قد أحاطت بالنفس الآثمة من كل جوانبها، وفى هذا إشارة إلى أحوال بنى إسرائيل، وأنهم أحاطت بهم خطاياهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء وهو محقق بالنسبة لبنى إسرائيل "فَأُولَئِكَ أصحاب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"، أى الذين يلازمونها، والذين حكم عليهم بصحبتها، وأكد سبحانه وتعالى خلودهم فيها، رداً على ادعائهم أنها لن تمسهم إلا أياماً معدودة، وأنهم غير مخلدين فيها.
ويؤيد ذلك قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، وقوله سبحانه على لسان إبراهيم: {وَالَّذِى أَطْمَعُ أن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} وعليه فليست الآية كما يظهر لأول وهلة من ظاهرها أنها دالة على أن مرتكب السيئة كافر كما يقول الخوارج، خصوصا إذا رجعنا إلى الآية المحكمة من مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
الجهل.. سلاح جماعات التطرف لاستقطاب الشباب
يتفق غالبية الفقهاء والعلماء على وجود أسباب متعددة وراء تعاظم ظاهرة الغلو، أهمها انعدام الإلمام بقواعد الفقه وأصول الدين والجهل بالعلم الشرعى لدى جماعات التطرف، مما يؤدى إلى الصدام بينهم وبين مجتمعاتهم والمخالفين لهم فى الرأى بسبب ضيق الأفق وغياب المنطق وقصر النظر، والتشدد فى تفسير الدين، والخروج على منهج الاعتدال، وهو ما حذر منه النبى بقوله «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحد إلا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ».
بالإضافة إلى استغلال هذه الجماعات لعاطفة الشباب المتوهجة وشدة غيرتهم على الدين، فى ظل انخداعهم بشعاراتها وافتقدهم للحكمة والعلم وقواعد الفقه القائمة على مراعاة المصالح ودرء المفاسد، وشن هذه الجماعات وقادتها حملات تشويه ضد علماء الأمة واتهامهم بأنهم علماء تابعون للسلطة، مفرطون فى ثوابت العقيدة، يستخدمون الدين وسلاح الفتوى لخدمة الحكام، فى ظل غياب المرجعية الدينية الصحيحة لدى هذه الجماعات، فيسقط الشباب فى هاوية التطرف والتشدد بناء على علم مغلوط، ويعتقدون أنهم بتعصبهم وحدتهم وتشددهم يقيمون شرع الله فى مواجهة المجتمع المفرط فى دينه، فتكون الخطوة التالية هى تكفير المجتمع حكاماً ومحكومين، ومن ثم الخروج المسلح عليه، باعتباره مجتمعاً كافراً تستحل فيه دماء وأعراض وأموال أبنائه، خاصة أن منظرى هذه الجماعات يقدمون تبريرات فاسدة لتعبئة الشباب استناداً إلى الواقع المؤلم الذى تعيشه
الأمة الإسلامية من انكسار وهوان، وأن تغيير هذا الواقع لن يتم إلا من خلال الجهاد لإقامة دولة الخلافة الإسلامية، والذى يصبح الطريق للجنة كما كانت تفعل فرق الخوارج والحشاشين عبر الاغتيالات والفتن والحروب الداخلية، باعتبار أن الحكام والمجتمعات الإسلامية هم الذين يستحقون الجهاد ضدهم، لذلك من ومنذ الخروج الأول للخوارج، وحتى هذه اللحظة كان السلاح والإرهاب والتدمير موجهاً للأمة الإسلامية ومؤسساتها، ولم يوجه إطلاقاً لخدمة قضايا الأمة فى مواجهة أعدائها على مر العصور.
لذلك يعتبر الجهل بالدين أخطر هذه الأسباب، ويتركز كما يقول العلماء فى القصور فى فهم مقاصد الشريعة من التيسير ورفع الحرج عن المكلفين، ويظهر ذلك فى تشدد المتطرفين على أنفسهم فى العبادات، والجهل بحدود الشريعة التى يجب على المكلف أن يقف عندها ولا يتعداها، والقصور فى فهم نصوص الشريعة، ويتجلى هذا الأمر فى النظرة الجزئية القاصرة لنصوص الشريعة، والتعصب الأعمى، والتقوقع على المعتقد القديم، وصرف الهمة إلى الفروع وبناء الولاء والبراء عليها فيؤدى إلى ظهور مظاهر غير محمودة كالعنف فى التعامل، والتزام التضييق على الناس مع قيام موجبات التسهيل ودواعيه، وأسبابه التيسير عليهم، مثل حال الخوارج إلى هذا الوقت، ومن مظاهرها ما يحصل من إعلاء المذاهب الفقهية المتعصبين لها على النصوص والأقوال الصحيحة، والاستقلالية فى استنباط الأحكام الشرعية دون ضابط محدد ومنهج حق من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومستند السلف الصالح واللغة العربية، وفى الوقوف على الأدلة ودلالتها وأقوال أهل الفقه والبصيرة فيها، ونقص أو انعدام التربية الحقيقية الإيمانية القائمة على مرتكزات ودعائم قوية من نصوص الوحى، واستبصار المصلحة العامة ودرء المفاسد الطارئة، وقلة إدراك عبر التاريخ ودروس الزمان وسنن الحياة فى واقع الناس.
أسباب الغلو العلمية.. الخوارج أنموذجاً
يدعو الدكتور عبدالرحمن بن معلا فى دراسته القيمة «أسباب الغلو العلمية المنهجية وعلاجها.. الخوارج أنموذجاً»، إلى ضرورة البحث فى الأسباب المؤدية للوقوع فى الغلو سواء كانت متعلقة بالجانب الذاتى للفرد أو الجماعة أو البيئة المحيطة، مشيراً إلى أن هذه الأسباب قد يكون تأثيرها فى أحداث الغلو ابتداء، وقد يكون تأثيرها فى إمداده واستمراره ونشر مظاهره.
ويحذر من اتخاذ هذه الأسباب كستار لتبرير الغلو، وخلق الأعذار لأصحابه بما يؤدى لمزيد من التشدد والتطرف الذى ينعكس فى سلوكيات إجرامية فى مواجهة الآخر، مضيفاً أن الغلو قد يوجد أيضاً فى البيئة السليمة لكن لأن وجهة النظر المبنية على الجهل والظلم تجعل ما ليس بخطأ خطأ وقد وقع ذلك فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم، فعن أبى سعيد الخدْرى قَالَ «بَيْنَما النَّبِى يَقْسِمُ الْغَنَائِمَ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: وَيْلَكَ مَنْ يَعْدِلُ إذا لَمْ أَعْدِلْ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أصحاباً يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، فهذا الرجل ظن لسوء نيته أن النبى صلى الله عليه وسلم قد ظلم، وكذلك فعل الخوارج حين رفعوا دعوى إبطال التحكيم.
ويؤكد «عبدالرحمن» أن أهم أسباب غلو الخوارج هو الجهل، لذا وصفهم النبى فى حديثه «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» أى أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن وهم لا يتفقهون فيه ولا يعرفون معانيه ومقاصده، لذا قال الإمام النووى «المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم ولا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم، لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه فى القلب».
ويضيف: وتتعدد ألوان الجهل لدى الخوارج منها الجهل بالقرآن، فقد كان عدم فهمهم للكتاب العزيز سبباً فى انحرافهم، فقد أخذوا آيات نزلت فى الكفار فحملوها على المسلمين، ويقول عبدالله بن عمر رضى الله عنهما «إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت فى الكفار فجعلوها على المؤمنين»، ومن عدم فهمهم للقرآن استشهادهم على إبطال التحكيم بقوله تعالى: "إن الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ" فالمعنى المأخوذ من الآية صحيح فى الجملة، وأما على التفصيل فيحتاج إلى بيان؛ ولذلك رد عليهم فقال: «كلمة حق أريد بها باطل»، وقال الحافظ ابن حجر «وكان أول كلمة خرجوا بها قولهم: لا حكم إلا لله انتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها»، وقال الشاطبى «ألا ترى أن الخوارج كيف خرجوا من الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمى، لأن رسول الله وصفهم بأنهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يعنى أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم، لأن الفهم راجع إلى القلب، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل به فهم على حال، وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف المسموعة فقط، وهو الذى يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم».
ومن أظهر دلالات جهلهم بالقرآن أنهم أخذوا عموميات الوعيد، فقالوا إن معصية واحدة كافية للخلود فى النار، استدلالاً بمثل قوله تعالى: "وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ".
ومن أسباب الجهل أيضاً لدى الخوارج جهلهم بالسنة وطرح أدلتها وإعراضهم عنها، فهم يصدقون الرسول فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التى تخالف بزعمهم ظاهر القرآن، فأدى ذلك إلى جعل ما ليس بسيئة سيئة، وما ليس بحسنة حسنة، وهو ما يسمى فقهياً بتحسين القبيح وتقبيح الحسن، ومن أمثلة ذلك استدلالهم بعموميات الوعيد من القرآن على تكفير العصاة وأنهم مخلدون فى النار، فقد أخذوا تلك العموميات، وقطعوها عن نصوص السنة المبينة لها مثل قوله فى الحديث القدسى «يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِى بِقُرَابِ الأرض خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِى لَا تُشْرِكُ بِى شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»، وحديث أبى ذر الذى قال فيه «أتيت النبى وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه، فقال: "مَا مِنْ عبد قَالَ لَا إِلَهَ إلا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إلا دَخَلَ الْجَنَّةَ،" قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَ: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ" ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ فِى الرَّابِعَةِ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِى ذَرٍّ»، وفى رواية للبخارى «أَنَّ جَبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِى بَشِّرْ أُمَّتَكَ أنه مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؛ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ».
ويضاف لجهل الخوارج جهلهم بقدر السلف وأهل العلم، رغم أنه من أصول الدين رعاية قدر الصحابة رضى الله عنهم، والاقتداء بهديهم والاستنان بسننهم لقوله «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمُهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِى عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأمور، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، ويقول عبدالله بن مسعود «من كان منكم متأسياً فليتأسَّ بأصحاب رسول الله كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم فى آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».
ويشدد «عبدالرحمن» على أن من الأسباب الرئيسة لانحراف الخوارج اعتدادهم بأهوائهم فى مقابل النصوص، واعتدادهم بأنفسهم فى مقابل أهل العلم أصحاب رسول الله، فكان أول خارجى هو ذو الخويصرة المعترض على قسمة النبى، ثم جاء الخوارج فاعترضوا على صحابة النبى ورفضوا أقوالهم بل وتبرأوا منهم وكفروهم، واستحلوا دماءهم.
الفقر والعولمة واختلال المعايير الدولية.. وراء انتشار التطرف
فى دراسته أسباب الغلو والتطرف وآثارهما وطرق العلاج، يشير الباحث رائد طلال، إلى أن الأسباب الفكرية للغلو تكمن فى ظهور تيار دينى متطرف يعارض المدنيةَ الحديثةَ وكل ما يتصل بالتقدم الحضارى، فهى من وجهة نظرهم فساد فى الدين والأخلاق، مع غياب الوسطية وظهور الآراء المتشددة واتهام الآراء المعتدلة بالتفريط والتهاون فى دين الله.
بينما تتركز الأسباب الدينية للغلو فى تصدر حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام للعلم والدعوة، فأفتوا بغير علم، وحكموا فى الأمور بلا فقه، وواجهوا الأحداث الجسام بلا تجربة ولا رأى ولا رجوع إلى أهل العلم والرأى، بل كثير منهم ينتقص العلماء ولا يعرف لهم قدرهم، فيلمزهم بالتقصير والتبعية، كما يتميزون بالجهل وقلة الفقه فى الدين، وضحالة الحصيلة فى العلوم الشرعية، ومع ذلك يخوضون فى المصالح العظمى والقضايا المصيرية بتخبط وخلط وأحكام متسرعة ومواقف متشنجة، فى الوقت الذى أدى فيه غياب دور العلماء إلى تصدر غير الأكفاء الذين يضلون الناس بغير علم، بالإضافة إلى الجفوة بين العلماء والشباب، مما أوقع بعض الشباب فى الأحكام والتصرفات التى لا تليق تجاه علمائهم، ومن هنا يفقد الحوار الذى هو أساس التفاهم والإصلاح، وهكذا كان الخوارج الأولون يدعون العلم والاجتهاد، ويتطاولون على العلماء، وهم من أجهل الناس.
فيما تتركز الأسباب السياسية للغلو فى التناقض الفاضح بين ما تحض عليه مواثيق النظام السياسى الدولى من مبادئ وما تدعو إليه من قيم إنسانية رفيعة، وبين ما تنم عنه سلوكياته الفعلية التى تتنكر لكل القيم والمثاليات، وافتقار النظام السياسى الدولى إلى الحزم فى الرد بعقوبات دولية شاملة ورادعة، على المخالفات والانتهاكات التى تتعرض لها مواثيقه. فالتسيب الدولى هو الذى يفتح المجال واسعاً أمام الغلو والتطرف من المغرر بهم دينياً أو سياسياً أو عقائدياً، خاصة فى ظل استغلال هذه الجماعات لما يحدث فى أفغانستان والعراق وفلسطين.
ويشير الباحث، أيضاً، إلى أهمية الأسباب الاقتصادية، خاصة فى ظل هيمنة العولمة التى تلقى بظلالها السلبية على الأوضاع الاقتصادية للدول والمجتمعات الفقيرة، وتزيد الفجوة بينها وبين الدول الغنية، مع فشل المجتمع الدولى فى صياغة رؤية للتعاون الدولى، وحسم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية للدول الفقيرة وتحقيق مستوى حياة أفضل للغالبية العظمى من الشعوب.
وفيما يختص بالأسباب التربوية للغلو، فهى تقوم على افتقاد التوافق مع النفس ومع الغير أو مع المجتمع، مما يدفع هؤلاء المتطرفين لاتخاذ أساليب غير شرعية فى تغيير الواقع الذى يعيشونه، وخصوصاً أن أغلبهم فى مرحلة الشباب، وهم بحاجة لجملة من الحاجات الأساسية التى ينبغى إشباعها وتوجيهها، ليعيش فى استقرار نفسى واجتماعى، وإلا فسيصير الشاب إلى أحد طريقين، إما إشباع حاجاته من طرق غير سوية أو شرعية، وإما البقاء فى ظل الحرمان، وكلا الطريقين يصير بالمرء والمجتمع إلى عدم الاستقرار، مما يولد غلواً وتطرفاً فى الفكر نحو المجتمع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.