نشبت المعارك بين الاغلبية المسيطرة على مجلس الشعب حول مواعيد الصلاة، ورفع الآذان داخل قاعة البرلمان. ظهر السباق بين كتلتي الأغلبية من السلفيين والإخوان المسلمين، وكأنه هرولة إلى طريق الجنة، وبدا للعامة أن النواب سيأخذون بيدنا معهم إلى النعيم الذي وعد به المتقون. فجأة تسربت تلك الأماني، بعد أن هدأت العاصفة بين الطرفين واتضح أن الأغلبية الداعية إلى الركوع لله، تركع لشئ آخر غيره. فها هي العاصفة قد هدأت بين الطرفين، وظهرت التوافقات بينهما على الملأ، فلا صلاة صلوا ولا ثمرة جنيناها من ورائهما. فأيام القطيعة قد ولت، ودخلنا عصر الصفقات السرية، بسرعة الصاروخ. فالجلسات الباهتة التي يشهدها مجلس الشعب، دخلت بنا إلى نفق مظلم، فلا جدية في مناقشة ولا خروج بحلول. فأصبح المكسب الذي يجنيه هؤلاء الدعاة، مزيدا من بدلات السفر إلى بورسعيد والمناطق الملتهبة، دون أن نجني من سفرهم شيئا. ولا رفعة في شئ إلا بدلات حضور الجلسات التي تنفق أموالها وتهدر أوقاتها في اجتماعات بين النواب لا تسفر عن حلول على الاطلاق. جاءت الطامة الكبرى حينما تفرغ نواب الأغلبية لمحاسبة زيادة العليمي ورفاقه، باسم حماية القيم الاجتماعية والرموز الوطنية، وأخرى لحماية مصطفى بكري بزعم أن له مطلق الحرية في اتهام البرادعي بالخيانة العظمي. في الحالتين لم يكن المجلس الموقر على حق، ففي المرة الأولي تدخل فيما لا يعنيه، حيث كان أجدر بالمشير طنطاوي أن يحرك الدعوى المدنية ضد "العليمي"، على أقوال تفوه بها خارج البرلمان، وأيضا من حق النائب مصطفي بكري أن يتهم من يشاء تحت القبة، فلديه الحصانة التي تحميه من سطوة القانون، لأنه يمارس حريته النيابية. وها نحن أمام قضيتين طوي الزمان صفحاتها، بينما المجلس غافل عن القضايا الأساسية للمجتمع. زاد العجب عندما صدر أوامر للقضاء المصري، بأن يتوقف عن مناقشة المتهمين الأمريكيين في قضية التمويل الأجنبي. فإذ بقاضي التحقيق يتنحي ليلا، وفي ظلمته يغادر الأمريكان من مطار القاهرة، قبل صدور قرار من النيابة العامة برفع أسمائهم من قوائم الممنوعين من السفر. وتحت بصر وسمع وإرادة المجلس العسكري تهبط طائرة خاصة لنقل المتهمين المسجلين لحظة مغادرتهم البلاد إلى قبرص في سجلات الاتهامات القضائية. ولم تحرك تلك المأساة المصرية ساكنا لدى النواب، سواء من الذين مارسوا العمل النيابي في مجلس الشورى، أو الذين تمتعوا باجازاتهم الأسبوعية في مجلس الشعب. لم يكن نواب البرلمان منشغلين بالركوع لله، وإنما كانوا يعلمون الناس الركوع للهجمة الأمريكية التي جعلتهم يباركون صفقة تهريب الأمريكان من يد القضاء المصري، في موقف مذل ومخز. ونفس هؤلاء الراكعون هم الذين تحمسوا لعملية القبض على المسئولين الأمريكان وصفقوا للدكتور كمال الحنزوري حينما قال في بيانه أمام المجلس: إن مصر لن تركع لأمريكا أو غيرها!. ولم يمض على كلام الجنزوري عدة أيام حتى شارك النواب في تلك المهزلة التي جعلت كلمة الجنزوري " تنزل المرة دي." مثلما كان يفعل المعلم حميدو في فيلم "نورماندي" الشهير. الموقف المخز للنواب لم يكن الأول في تلك القضية، فحينما حاربنا عملاء التمويل الأجنبي، على صفحات بوابة الوفد، وتعرضنا للتحقيق أمام النيابة العامة، قبل أن يشرع المجلس العسكري والبرلمان في محاسبتهم، قدمنا الأدلة والبراهين التي تثبت حسن موقفنا. وعندما حاول المجلس العسكري استغلال المعركة مع بعض عملاء التمويل، للحصول على دعم سياسي من المجتمع في محاربته لبعض خصومه، حذرنا من انجراف القوى السياسية وراء هذا الفخ. فلم يكن المجلس العسكري جادا في محاربة الفساد، وانما أراد الانتصار لرموزه ضد بعض الشخصيات فحسب، بدليل أنه عين بعض الممولين في مناصب رسمية حساسة. مع ذلك رأينا جهابزة الأغلبية في البرلمان تسير على خطاه، وتحرك الأمر بين أروقة البرلمان، لدرجة أشعرت الناس بأن مصر ستعلن الحرب على أمريكا. لم يستمع النواب لما قلناه بأن الحرب التي أشعلها المجلس العسكري ضد هذه المنظمات ناقصة الأركان، بما يجعل محاسبتهم أمرا مستحيلا قانونيا وسياسيا. مع ذلك استمروا في مجاراة " العسكري" إلى آخر نفس عملا بمبدأ الركوع خير من النوم، وانصر رئيسك ظالما أو مظلوما. ظنت الأغلبية الراكعة أن دفع المجلس العسكري في قضية ثأر، ستعيد العلاقات الدافئة بين الطرفين، وتبعد عيون الناس عنهم، بعدما فجعوا في أدائهم تحت قبة البرلمان. لذلك ساروا وراء المجلس العسكري كالعميان، إلى أن فوجئوا بأن المجلس العسكري، الذي علمهم الركوع، تحول أسرع منهم إلى حركة السجود. وصدق ما فعله المجلس العسكري، في قضية تمس سيادة الدولة وأمنها القومي بل والاجتماعي، القول الذي لفظته سيدة مصرية في جريدة نيويورك تايمز" بأنها توجهت لإلتهام طبق سلطة، وعادت لتجد المجلس العسكري قد سجد للأمريكان في قضية كادت تشعل حربا بين البلدين" هكذا بكل بساطة تحول المجلس الحاكم بأمره إلى داع للسجود، وممارس عام لهذه المهمة التي اعتدنا عليها في عهد الرئيس المخلوع. قلنا من قبل أن الأمر برمته بدأ خطأَ، ولم يكن للمجلس العسكري أو البرلمان أن يواصل معركة خسرناها قبل أن تبدأ. فمثل هذه الأمور لو عرضت على أهل العلم لقالوا للعسكري عليك أن تطرد الأمريكان من مصر باعتبارهم مارسوا عملا مخالفا للقانون، وأن يحاسب المصريين على مخالفاتهم التي ارتكبوها انطلاقا من نفس المبدأ. وهذا الأمر لم يكن يكلف المجلس العسكري سوى اصدار أمر للجهات المختصة باعتبار هؤلاء الاشخاص شخصيات غير مرغوب في وجودها داخل البلاد، ويمنحهم مهلة من الوقت لا تتخطى عدة أيام للمغادرة. كان أحرى بهذا القرار أن يمنع حربا ساخنة بين مصر وأمريكا خرجنا منها ساجدين، سجدة العار والندامة، ومع ذلك لم يعتذر المجلس العسكري عن خطئه التاريخي ولم يحاسبه البرلمان الداع إلى الركوع على ما فعله بشعب مصر. وفي نفس الوقت الذي هرب الأمريكان بفعلتهم، ظل المصريون المتهمون في القضية رهينة بالسجون، وكأن هناك تحالفا بين البرلمان والمجلس العسكري والقضاء على معاملة المصريين معاملة تمييزية، تضعهم في مرتبة متدنية عن الأمريكان أو غيرهم أمام القانون. أمر فظيع أن تشعر أن برلمان بلدك وبعض قضاتك ورئيسك يتآمر عليك، ولا يخجل كل منهم في أن يصور لك الأمر على أنه بطولة وأن ما أنجزوه من عار، من أجل المصلحة العامة. فلو كان هؤلاء يتعلمون الركوع والسجود لوجه الله فقط، ما ظلموا أحدا في تلك القضايا وتعلموا حل الأمور بما يرضي الله والناس، وليس وفقا لشهوة السلطة والعز والجاه. فنحن نعلم أن من يطلب العزة من غير الله ذل ومن يطلب الحكمة من غير الله ضل ، ومن يطلب النصر من بشر سلط عليه شر الناس.