منذ أن أعلن "كرد العراق" اعتزامهم إجراء استفتاء حول الاستقلال يوم 25 سبتمبر الجاري، قامت الدنيا ولم تقعد. ووقع المحللون والسياسيون في مأزق كبير، بسبب التشابك الشديد والمعقد بين أطراف دولية مهمة، سواء التي لها مصلحة في خروج كردستان إلى النور، أو الذين يسعون إلى إجهاض الحلم الكردي التاريخي. ولأن الحلم شئ وتحقيقه شيء آخر، فقد تراجعت الدول المساندة للأكراد في ميادين القتال والمؤيدة للحلم الكردي، خطوات للوراء فور أن تحدد موعد الاستفتاء. فلا أحد على استعداد لتحمل جزءًا من فاتورة الاستقلال وعواقبه، والتي قد تصل إلى اندلاع حرب شاملة في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة أصلًا.. آخر التطورات هناك سجالات كثيرة حول قضية الاستقلال وتراشق بالاتهامات وتصريحات دبلوماسية متعددة، لكن أخطرها ما صدر خلال الساعات الماضية، بالتهديد باستخدام القوة في حالة إجراء الاستفتاء على الاستقلال الكردي. هذا التهديد الواضح والصريح الصادر من تركيا، يوضح أن أنقرة هي الأكثر عداوة للمشروع الوليد، يليها إيران، لدرجة أن البلدين تجاهلا العداء التاريخي بينهما، وجرى تنسيق واضح بين أنقرة وطهران من أجل وأد آخر عنقود دول الشرق الأوسط الذي يستعد للخروج إلى النور. لقد أصبحت كردستان التحدي الأكبر الذي يمكن أن يطوي عقودًا من الصراع والحقد بين الدولة الصفوية (الفرس سابقًا وإيران حاليًا) والدولة العثمانية (تركيا حاليًا). هذا التحدي أيضًا يسمح بتجاهل الصراع الديني المذهبي (السنة والشيعة) الطويل بين تركياوإيران، بالإضافة إلى إغماض العين عن الخلافات بينهما تجاه موقف كل منهما من أزمة سورية.. كل هذا وأكثر، أصبح وكأنه لم يكن، وبات الهم الوحيد للبلدين هو قتل كردستان في المهد.. ولكن لماذا؟؟ الإجابة بسيطة.. وهو أن الأكراد أكبر قومية في العالم بلا دولة. من هم الأكراد؟ هم بحكم موقعهم منتشرون بين أكثر من 5 دول؛ يسكنون المناطق الجبلية على حدود العراقوتركياوإيران وسورية وأرمينيا. ويتراوح عدد الأكراد بين 30 و40 مليونًا، تجمعهم لغة مشتركة ولهجات مختلفة. ولعقود طويلة، عومل الأكراد كأقليات مهمة في الدول الخمس. ورغم أن الأكراد هم رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط،إلا أنهم لم يتمتعوا أبدًا بدولة مستقلة في العصر الحديث. وتاريخيًا، هم جماعة عاشت على الرعي والزراعة في المناطق الجبلية في العراقوتركياوإيران وسورية وأرمينيا.. وتختلف الديانات والعقائد بين الأكراد، رغم أن الأغلبية من المسلمين. الحلم الكردي.. كابوس أردوغان ولاشك أن ما شهدته المنطقة مؤخرًا من تطورات وصراعات، ساهم في أحياء حلم الدولة الكردية من جديد، خاصة بعد أن لعبوا دورًا ملموسًا في الصراعات الداخلية بالعراق وسورية، وشاركوا بنجاح في الحرب على تنظيم داعش الإرهابي. بالإضافة إلى ذلك، هناك تاريخ طويل من الكفاح لأكراد تركيا من أجل انتزاع حقوقهم المشروعة والمنتهكة، التي تصاعدت حدتها في عهد نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذي يخشى أن توقظ الدولة الكردية الثورة من جديد في الجنوب التركي، حيث يعيش أكثر من 8 ملايين كردي في ظروف شديدة القسوة رغم الثروات الهائلة في مناطقهم، والتي لا يستفيدون منها. وتعتقد أنقرة أن قيام الدولة الكردية في العراق، لن يتوقف عند هذا الحد، بل سيبدأ الصراع من أجل الحدود، لضم الأراضي التي يعيش عليها أكراد تركيا وسورية وإيران وأرمينيا. وعلى مر التاريخ، عاملت السلطات التركية، الأكراد بوحشية، ردًا على حركات التمرد في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. وقامت السلطات التركية، أكثر من مرة بتهجير وإعادة توطين ملايين الأكراد. وحظرت السلطات التركية، الأسماء الكردية أو استخدام اللغة الكردية أو حتى ارتداء الملابس التي يمكن أن توحي بالقومية الكردية. واستمرت عمليات القمع الكردي للأكراد، حتى أسس عبد الله أوجلان حزب العمال الكردستاني في 1978، وطالب بإقامة دولة مستقلة، ودخل في صراعات مسلحة مع الحكومات التركية المتعاقبة. ونتيجة لذلك تم تدمير حوالي 3 الآف قرية كردية وتهجير سكانها، بالإضافة إلى مصرع حوالي 40 ألف شخص.. ولم ينجح القمع في وأد الحلم الكردي، الذي مازال يرعب أردوغان.. فهو يخشى أن يدفع فاتورة دعمه لتنظيم داعش وسرقته بترول العراق، بعد إعلان استقلال أكراد العراق. أكراد سورية وإيران.. هم متصل ولا يختلف الوضع كثيرًا بالنسبة لأكراد سورية وإيران.. فقد تم تجريد 300 ألف كردي من الجنسية السورية في ستينات القرن الماضي، وصودرت أراضيهم. أما في إيران، فقد تعرضوا لعمليات قمع متواصلة، واندلع صراع مسلح بينهم وبين السلطات الإيرانية امتد من 1979 وحتى 1982، حيث بسطت الحكومة الإيرانية نفوذها على معاقل أكراد إيران. موقف القوى الكبرى حالة تذبذب ترتبط بخرائط المصالح تحدد موقف الدول الكبرى. فالولاياتالمتحدة، حليف إستراتيجي للأكراد في الحرب ضد التنظيمات المتطرفة وقبلها ضد نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.. ومع ذلك هى مترددة في موقفها تجاه مسالة الاستقلال الكردي، خوفًا من انفجار المنطقة بشكل يهدد المصالح الأمريكيةومصالح الغرب بصفة عامة. أما روسيا، فهى تحاول أن تبدو غاضبة من استفتاء الاستقلال، إرضاءً لسورية وإيران، وحفاظًا على التحالف المساند للرئيس السوري بشار الأسد في مواجهة المخططات الغربية. وتواجه روسيا مأزقًا غير سهل، بسبب الارتباط التاريخي بحزب العمال الكردستاني التركي، ذي التوجهات اليسارية.. فقد دعمت روسيا، الحزب الكردستاني لسنوات طويلة في صراعه ضد الحكومة التركية، مما يضع موسكو بين سندان مصالحها في سورية ومطرقة التاريخ مع نضال الأكراد. أما الدول العربية، فهى ترتبط بعلاقات جيدة مع الأكراد، ولكنها مضطرة إلى الالتزام بميثاق جامعة الدول العربية، الذي ينص على مبدأ الحفاظ على وحدة أراضي الدول العربية، ومن بينها بالضرورة العراق، في مواجهة أي مخططات تمزيق، خوفًا من الدائرة التي أن دارت لن تتوقف يومًا ما. ومع ذلك، من الواضح أن مبادئ الحفاظ على وحدة الأراضي للدول العربية، هو مجرد "طق حنك" عربي.. ومن المؤكد أيضًا، أن الدول العربية لن تؤيد لجوء تركيا أو إيران إلى استخدام القوة، لقمع الأكراد في العراق، على اعتبار أن ذلك تدخل سافر في شئون الآخرين. البديل عن استفتاء الاستقلال تتصاعد الضغوط الدولية على الأكراد مع اقتراب موعد 25 سبتمبر، وتسعى الولاياتالمتحدة وأوروبا حاليًا إلى دفع الأكراد إلى تجميد الاستفتاء أو تأجيله على الأقل، في مقابل ثمن وفاتورة باهظة تدفعها بغداد. وجاءت تصريحات الزعيم الكردي مسعود برزاني، لتلخص هذه المسألة؛ إذا لم يكن البديل المقترح مناسبًا فلن نؤجل الاستفتاء. ورغم أن أحدًا لم يكشف بعد عن طبيعة البديل المنتظر، إلا أنه لن يخرج عن كونه مجموعة من الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية، مثل حصة كبيرة من عائدات بترول كركوك، وحقوق ثقافية في اللغة والعادات والتقاليد، ومزايا عسكرية في التسلح.. إلى آخر المقومات التي تصنع "دولة"، حتى وإن لم تستقل "الدولة".