خير ما أبدأ به تحية عطرة لشباب 25 يناير ودعاء بالرحمة لشهداء هذه الثورة قد لا استطيع حصر كل ما يريده الناس وما كانوا يريدون علي مدي السنوات الماضية، لكن أهم ما نحتاجه اليوم هو تعليم جديد، فقد عانينا من تدهور خطير في التعليم بجميع مراحله، كان السبب ببساطة قصورا في الادارة وفي الموارد، وبرغم إدراك أن التجارب الناجحة لجميع الدول المتقدمة والنامية بدأت بالتعليم، فقد استمرت موارده عندنا شحيحة للغاية وعرضة لأن يستقطع منها دون مبرر ودون حساب لكيف يمكن أن يؤدي تواضع الادارة والمباني المدرسية وتجهيزاتها وصيانتها والاجور الكرتونية للمدرسين وغيرها إلي تعليم شكلي، ويعلم القاصي والداني أن خفض نسبة الامية وتحسين التعليم هما الباب الرئيسي للتنمية البشرية والاقتصادية والعسكرية، ومع ذلك فكنا كالذي يؤذن في مالطة، تقول بديهيات التنمية ببساطة ان التعليم والبحث العلمي سبيلان متكاملان للقوة العسكرية والاقتصادية، لدينا العقول لكننا افتقدنا الرؤية والادارة الاستراتيجية للتعليم والبحث العلمي. رأيت منذ أيام قليلة في احدي القنوات التليفزيونية ممثلا أدي دورا في فيلم »طباخ الرئيس« يفاخر بأنه حظي بمقابلة لمدة ساعتين تقريبا مع الرئيس السابق وراح هذا الممثل يفاخر بهذا اللقاء في القنوات التليفزيونية، بينما لم يحظ باحث أو عالم مصري بهذا الشرف الكبير، لقد رصدت الاعتمادات الطائلة كل عام لأحسن فيلم واحسن مخرج واحسن سيناريو وأحسن ممثل..إلخ، ولم ترصد هذه المكافآت للباحثين والعلماء الشباب منهم والكبار حتي باتت مصر طاردة للكفاءات وجاذبة للممثلين والمطربين حتي من الدول العربية شرقاً وغرباً، ورصدت ملايين لكرة القدم وحرمت منها عقول الباحثين وبرامج البحث العلمي، إنني لا أقلل أبداً من شأن الفن اخراجا وتمثيلا وغناء وغيرها من مجالات النشاط الفني ولا من الرياضة وغيرها، لكن الأمل أن تتوازن الاهتمامات ويحظي كل نشاط بما يستحقه ويتكافأ مع احتياج مصر إليه في السنوات القادمة. توضح تجارب دول كانت في مستوانا في الخمسينيات من القرن الماضي مثل الهند وكوريا الجنوبية وماليزيا أن البحث العلمي كان حجر الزاوية فيما وصلت إليه الآن من تقدم اقتصادي وعسكري وسياسي، ومركز متقدم علي الساحة العالمية، وأن اكتفاء هذه الدول الذاتي من معظم غذائها فضلا عن ازدهار صناعاتها ونجاح صادراتها كان من ثمار برامجها في البحث العلمي، ومصر في هذا الصدد غنية وفقيرة، غنية بعلمائها وخبرائها لكنها فقيرة في توظيف هذه الكفاءات في برامج هادفة للبحث العلمي، وفي رأيي أن برامج البحث العلمي الاساسي والتطبيقي هي وليدة دورين متكاملين لكل من الدولة والشركات، أما دور الدولة فتجسده استراتيجيات عصرية يتعين تخطيطها بشكل خاص من قبل وزارات التعليم والتعليم العالي والبحث العلمي، والاعلام، مع قوانين عصرية داعمة تصيغ مشروعاتها وزارتا التعليم العالي والبحث العلمي ويدرسها ويقرها مجلس الشعب. وبالاضافة للتعليم نريد اهتماما سياسيا بتحديد الأولويات القومية من تشغيل واجور وإسكان وزارعة وصناعة وأمن وغيرها ضمن خطة استراتيجية خمسية تقوم علي ما قُتل بحثا من تشخيص وتحديد للمسببات، لكن ليس المهم هو جودة تصميم الخطط الاستراتيجية في مجالات الاولوية، بل جودة تنفيذها أيضا، وهذا مرهون باختيار واع لقيادات تصلح لأن تكون وزراء، وزراء اكفاء يجمعون بين الحس السياسي والخبرة الادارية والشخصية القيادية. إن ما يمارسه الوزير - أي وزير - هو باختصار: الادارة الاستراتيجية، أي تلك الادارة التي تتميز بالتفكير الاستراتيجي وتصميم الاهداف الاستراتيجية والخطط الاستراتيجية المؤدية لبلوغ هذه الاهداف، وصنع القرارات الاستراتيجية تنفيذا لهذه الخطط، والتنسيق بين الاهداف المتعارضة. إن مستوي فاعلية الادارة الاستراتيجية بالجهاز الاداري للدولة التي يمارسها الوزراء هو المحدد الرئيس لفاعلية الاقتصاد القومي ومدي نموه، هذا المستوي يمكن أن يحسن استخدام الموارد العامة أو لا يحسن استخدامها، وأن يجذب الاستثمارات أو يطردها، وأن يمتص البطالة أو يسهم في زيادتها ومن ثم يمكن أن ييسر نمو الناتج القومي أو يعوقه. إن وظيفة الوزير بهذا الشكل تتطلب أن يتوافر في شاغلها خصائص جوهرية أهمها الحس السياسي من حيث قدرته علي رسم سياسة وزارته انسجاما مع السياسة العامة للدولة وتوجهات مجلس الوزراء والطموحات الشعبية، وقدرته علي معالجة المعارضة بالسلوك السياسي مستخدما مزيجا متناسباً من الاقدام والاحجام بالقدر والتوقيت المناسبين لكل منهما لكسب التأييد وتحجيم أو تحييد المعارضة والتفكير الاستراتيجي والقدرة علي التخطيط الاستراتيجي دون الاستغراق في مشكلات الادارة اليومية، ومهارات صنع القرار الاستراتيجي، والتفكير الابتكاري بما يتطلبه من خيال، حدس، واستشراف المستقبل، والقدرة علي تصميم سيناريوهات بديلة كمناهج مخططة للتصرف لاقتناص الفرص وتوقي أو معالجة التحديات، كذلك الوعي المهني متضمناً المعارف والمهارات والخبرات والجرأة من حيث حساب تبعات القرار الاستراتيجي وتحمل مسئولياتها ونتائجها علي المدي الطويل. أيضا الحضور الشخصي والقدرة علي الادارة الميدانية بالتواجد الرشيق في مواقع الاحداث وبين الناس، ومهارات التفويض، وتكوين الصف الثاني مهم أيضا القدرة علي العمل بروح الفريق داخل مجلس الوزراء، ولا ننسي هنا النزاهة. فإذا تحددت الأولويات القومية وتوفرت الخطط الاستراتيجية وتوافر علي تطبيقها كفاءات مخلصة تزخر بها مصر، فالأمل كبير بإذن الله أن نستعيد مصر مكانتها وصدارتها، والله الموفق. استاذ الإدارة - جامعة بنها