مر عام على الثورة المصرية، وحلت أيام من المفترض أن تشهد فيها البلاد فرحة عارمة، بما حققه الشعب لأول مرة في تاريخه، حيث تمكن من خلع الفرعون، ونظم محاكمة عادلة له ولجنوده. وبدلا من تعليق الزينات والأعلام، جهزنا نصبا للمشانق في كل الميادين، وكأننا شعب في طريقه للانتحار. فهناك تيار يتعجل نتائج الثورة، وآخر يجرجرها إلى الماضي، وبينهما شعب تتمزق ضلوعه. فمصر التي أراها الآن تعيش نفس إرهاصات الثورة الأولى، حيث ظهر في هذا اليوم حوار لوزير الداخلية المحبوس بتهمة قتل المتظاهرين، يحذرفيه بأنه سيقابل أية انتفاضة بالضرب في المليان، بعد أن جهز العربات المصفحة وكل أنواع الأسلحة، لصد المظاهرات التى ظهرت بشائرها على صفحات الإنترنت. وعلى الطرف الآخر، كان الشباب يوزع البيانات ويهدد ويتوعد بأن يكون احتفال الشرطة بعيدها، يوما أسود، فنرى كلاما بلا رأس وتهديدا عبر فضاء مجهول. ما أشبه الليلة بالبارحة، فقد امتلأت جدران الشوراع وصفحات الانترنت بنفس العبارات القديمة، مع اختلاف طفيف، فبدلا من يسقط حسنى مبارك، نشاهد عبارات يسقط حكم العسكر. وبرزت دعوات لاسقاط المجلس العسكري، بعد أن كانت تدعو لاسقاط نظام مبارك. وعلى النقيض نرى أجهزة الإعلام، تبين تحذيرات من أعمال عنف سيقوم بها المتظاهرون، وأن اليد الحديدية، ستضرب خصومها بقبضة من حديد. فالمواجهة بين الطرفين مستمرة، بينما الشعب الذي كان أكثر طمأنينة قبل الثورة يعيش حالة رعب مفزعة. فهناك عدم أمان على اليوم، وفقدان الثقة في المستقبل، بما أصاب البلاد بحالة تامة من الشلل في شتى مناحي الحياة. سقط شعار الشعب والجيش إيد واحدة، وتحولت الوحدة إلى مواجهة ساخنة في كثير من الأحيان، فقد الثوار هيبتهم، وضاعت كرامة الجيش في الميدان. توقف الحوار بين الطرفين المتحالفين في الماضي، والمتصارعين حاليا، دفع البلطجية والخارجين على القانون، للعمل بكل ما أتوا من قوة لبسط سيطرتهم على الدولة. فلم تكن تجارة الأسلحة، في شوارع مصر وحواريها على الملأ إلا لأن اصحابها يعرفون أن السلطة أصبحت عاجزة عن مداهمة المجرمين. ولم تصبح الاعتداءات على أراضي الدولة ومشروعات كبري مثل المحطة النووية بالضبعة عملية سهلة إلا بعد أن أيقن لصوص المال العام، أن الجيش لم يعد متفرغا لمطاردة أمثال هؤلاء اللئام. ولم تتحول ظاهرة السرقات والانفلات المروري عادة يومية إلا بعد أن دخل البلطجية وسط الثوار، فاختلط الحابل بالنابل وخرجت قنابل المولوتوف من بين صفوف الغاضبين في اتجاه البرلمان ومجلس الوزراء. لقد أصبحت الثورة على المحك، فلم تتحقق من أهدافها، إلا القليل الذي استفادت منه تيارات ركبت الثوار، ثم أدارت وجهها للميادين الثائرة، بينما أهالي الشهداء والمصابين يصرخون في الشوارع طلبا للعدالة وإعمال القانون في وجه المجرمين. وبعد أن كان الشعب كله في ظهر الثورة، كثر في الطريق من أدار لها ظهره، ومنهم من يريد للثورة أن توأد، أو يباد من فوق ظهر الأرض، كل من شارك أودعا إليها. هكذا حال المصريين، فهم شعب عندما يثور ليس لديه طاقة على الصبر ويدفعهم حب الاستقرار العاجل إلى التخلي عن أعظم الأمور، وهي التمتع بفرحة النصر الذي يأتي بعد كد وعناء. لن يعود الشعب إلى الميدان كما كان من قبل، وسيقتصر الوجود على الثوار من ذوي القلوب الطاهرة، وبالتأكيد سيندس بينهم بهلوانات الظهور في الفضائيات وأمام الكاميرات، وكثير من البلطيجة المنفذين لتعليمات أسيادهم ممن يدفعون لهم الاتاوات. وعلى الهامش ستتواجد قوات الشرطة، بينما ستكون قوات الجيش المصطفة في محل المواجهة، بعد أن كانت في لحمة مع الثوار. في هذه الحالة لن يكون للميدان قيمة ولا مستقبل، فلا الثوار راضون عن المجلس الذي سلموه السلطة، ولا الجيش سيكون متحدا على قلب رجال الميدان. هذه الهوة التي صنعتها أياد شيطانية وعقول مهتزة، شقت وحدة الجيش مع الشعب، يجب أن تختفي مهما كانت النتائج. فعندما نجح الشعب في إخلاء الميدان من جلادي الشرطة، كان هو نفسه الذي أفسح الطريق لدخول جنود الجيش كي يحافظ على استقرار البلد. لم يكن إفساح الطريق أمام الجيش عملية وليدة الصدفة، بل لأن هناك ايمانا تاما من الناس بأن الجيش هو الحصن الأخير لحماية وحدة الشعب وحدوده، وأنه لم يكن في يوم خصم لهذا الشعب. فالشعب لم يعاقب الجيش على خطاياه عندما وقعت نكسة 1967، واكتفى بعقاب بعض قادته الذين أوقعوا بالشعب العربي بأسره هزيمة نكراء، دفعنا ثمنها غاليا من دماء الشهداء التي سالت على أرض سيناء وكل الجبهات العربية. الآن جاء الوقت الذي نطالب فيه بأن يكون الشعب واعيا، كما كان دائما. فالحساب مع المخطئين من المجلس العسكري وغيره ، لا يجب أن يتحول إلى هجمة شرسة على الجيش المصري بأسره. فلا يمكن أبدا أن نعاقب جنديا على خطيئة قائده، ولا نضرب منشأة لأن لصا اختبأ بها، ولا نرفع نارا في وجه من يسكب على بيوتنا البنزين. فمن الغباء ونحن نحتفل بيوم النصر أن نمنح اللص مفتاحا كي يدخل بيوتنا ويسكن فيها، بل ويزيحنا منها. ومن العار أن نحول ميادين النصر إلى ساحة قتال، بين شعب مسالم وجيشه الذي أيد ثورته. ومن الخطأ أن نخلط الأمور، بحيث نصور البلطجي ثائرا، وأن نجعل من فلول النظام البائد دعاة للثورة. علينا أن ننتبه إلى أن الثورة ماضية فيما انطلقت لأجله، فالرصاص الذي خرج تجاه صدورنا يوم الثورة، يجب أن نخرجه كي نلقي به في سلة المهملات، ولا نعيد إطلاقه ولو في وجه الخصوم. فليس بثائر من يبادل المجرم بمعيار جريمته، لأنه سيتحول إلى قاتل أسير لشهوة الانتقام. يكفي الثورة أنها فتحت أمامنا أبواب الحرية، ولكن نريد ألا يتمتع بهذه الحرية البلطجية وكل من يخرج على القانون، بينما من زرع لها، يخاف الخروج من بيته ولا يجد عملا أو دخلا يحافظ على أسرته وكرامته. أرى الثورة اليوم بين عهدين، فاسد لم تنقض أعمدته، وأعرج يحتاج إلى تثبت الأركان. ولن يقدر على بناء كل ركن إلا الثائر الحق الذي يعرف متى تكون ضربته صائبة في الميدان، وحكمته راجحة عندما تختلط الأمور في الأذهان. دعونا نعيش فرحة النصر الذي هدانا الله إليه، بعيدا عن كل الفرقة، فالثورة لم تكن نتاج فكر أو شخص أو اتجاه واحد، بل صنعت بعرق الجميع. فليحمي الله مصر وشعبها وجيشها، من كل سوء، وندعو أن تكون السنة الثانية بداية حصاد زرعه الشهداء والمصابون وملايين المصريين الذين تحملوا في سبيل هذا النصر كل غال ونفيس.