انتهت والحمد لله انتخابات مجلس الشعب بسلام، بصرف النظر عن النتائج التى أسعدت البعض، وأزعجت البعض الآخر، وخلقت حالة من الترقب لما يتلوها من خطوات، لا شك أنها ستثير الجدل نفسه والقلق نفسه، وفى مقدمتها تشكيل لجنة المائة التى ستضع مسودة الدستور، وطبيعة التحالفات التى يستهدفها المجلس القادم، والكل يضع يده على قلبه أملاً فى أن ننجح فى أول تجربة ديمقراطية منزهة عن القيوده والتحكمات والتدخلات التى شهدتها الحياة النيابية فى مصر منذ عرفتها عام 1866، بصرف النظر عن الآراء التى يذهب أصحابها إلى أن الانتخابات لم تكن ديمقراطية بالمعنى الصحيح، لأنها لم يتح لها الوقت كى تجرى على أسس سياسية، ولأنها جرت فى الأغلب الأعم على أسس شبه عائلية وشبه قبلية وشبه طائفية، فإن الطريق الذى طوله ألف ميل يبدأ بخطوة واحدة، بشرط أن تكون صحيحة، وكل شعوب العالم لم تتعلم الديمقراطية، بين يوم وليلة، ولم تمارسها بشكل كامل منذ أول خطوة، ولكنها تقدمت فى طريقها بشكل متدرج، يمتلئ بالعثرات والطفرات، والتقدم والتراجع وتتطلب زمناً ليس قصيراً حتى تستقيم أمورها إلى المعايير الدولية التى وصلت إليها الشعوب المتقدمة. أما الذى يتطلب التوقف عنده الآن، فهو الخطوة الثانية من خطوات تشكيل البرلمان، وهى انتخابات مجلس الشورى التى تبدأ جولتها الأولى فى 29 يناير وتستمر حتى 11 مارس. المؤكد أن انتخابات مجلس الشورى لن تلقى الحماس نفسه الذى لقيته انتخابات مجلس الشعب، وهذه ظاهرة معروفة، منذ بداية انتخاباته لأول مرة فى العام 1981، عندما تشكل بمقتضى التعديل الذى أدخله الرئيس السادات على دستور 1971 فى عام 1980، وشمل إضافة باب سابع للدستور يتكون من فصلين أحدهما من إحدى عشرة مادة، وهو عن مجلس الشورى، والثانى من ست مواد عن سلطة الصحافة، وكان وراء التفكير فى إنشاء هذا المجلس، هو تأسيس ما سماه الرئيس السادات بمجلس للعائلة المصرية، يضم ممثلين عن الفئات الاجتماعية المختلفة، لكى تحافظ على ما كان بصفة بأنه «أخلاق القرية» والتقاليد المصرية الأصيلة، وهى فكرة وجد المستشارون الدستوريون للإدارة المصرية آنذاك صعوبة فى ترجمتها إلى نصوص دستورية وقانونية، إلى أن انتهوا إلى الصيغة التى عرفت بهذا الاسم، بحيث يتشكل المجلس من عدد من الأعضاء يجرى انتخاب ثلثيهم فى انتخابات حرة مباشرة، ويعين رئيس الجمهورية الثلث الأخير، على أن يختص المجلس باقتراح ما يراه كفيلاً بالحفاظ على ثورتى 23 يوليو 1952 و15 مايو 1971، ودعم الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى، وحماية تحالف قوى الشعب العامل، والمكاسب الاشتراكية، والمقومات الأساسية للمجتمع، وقيمه العليا، والحقوق والحريات والواجبات العامة، ويعمق النظام الاشتراكى الديمقراطى، ويوسع مجالاته وتقتصر مهام هذا المجلس، على أخذ رأيه فى موضوعات محددة هى الاقتراحات الخاصة بتعديل الدستور، ومشروعات القوانين المكملة له، ومعاهدات الصلح والتحالف ومشروعات القوانين التى يحيلها إليه رئيس الجمهورية ليبدى رأيه فيها، وهو بذلك مجلس استشارى لا يمارس أية سلطة حقيقية، وقد ظل كذلك منذ انتخابه لأول مرة عام 1981 وحتى عام 2007، حين تقرر ضمن التعديلات الدستورية التى جرت آنذاك فى الدستور، توسيع هذه الاختصاصات، لتتحول من إبداء الرأى إلى «الموافقة» على تعديلات الدستور، والقوانين المكملة له، التى نصت عليها 23 مادة من الدستور، كما حذف من اختصاصاته كل ما يشير إلى الاشتراكية، وثورتى يوليو ومايو، وهى العبارات التى حذفت من كل مواد الدستور. وخلال هذه الفترة تعامل الجميع مع مجلس الشورى، باعتباره مجلساً أنشئ خصيصاً لكى يحل محل الاتحاد الاشتراكى فى التحكم وتملك والسيطرة على الصحف القومية، التى انتقلت ملكيتها إليه، وتعددت المطالبات بإلغائه، باعتبار إنشائه هو إهدار للمال العام. المهم أن مجلس الشورى لم يمارس الاختصاصات التى أضيفت إليه بمقتضى تعديلات 2007، إذ لم يمر سوى شهور قليلة على انتخابات 2010، حتى قامت ثورة 25 يناير، وبعدها بشهور جرى حله، ثم جاء الإعلان الدستورى فى 19 مارس 2011، ليعيد المجلس إلى اختصاصه الأول، وهو مجرد إبداء الرأى، وليس الموافقة على التعديلات الدستورية والقوانين المكملة للدستور.. إلخ. قبل هذا التاريخ وبعده كان هناك اتجاه قوى لدى القوى الإصلاحية فى مصر، وحتى بين بعض أجهزة النظام السابق، إن مجلس الشورى هو زائدة دستورية لا ضرورة لها ولا جدوى منها، سوى إهدار المال العام على إجراء انتخاباته، وعلى مكافآت أعضائه، والعاملين فى إدارته، وأنه مجرد مخزن لرجال الإدارة السابقين، وأمام المشرع أحد خيارين إما أن يلغيه ليبقى البرلمان، كما كان مقرراً من غرفة واحدة منذ دستور 1956 وهى مجلس الأمة ثم مجلس الشعب، وإما أن يتحول إلى غرفة ثانية للبرلمان لتحل محل مجلس الشيوخ، الذى كان قائماً قبل ثورة يوليو، وتأخذ كل الاختصاصات التشريعية للغرفة الأخرى، بما فيها إقرار القوانين لضمان مراجعتها جيداً قبل إصدارها، فضلاً عن ممارسة سلطة الرقابة التى تشمل تقديم الأسئلة وطلبات الإحاطة والاستجوابات للسلطة التنفيذية، وغيرها من السلطات باستثناء الحق فى فرض الضرائب وإقرار الميزانية. وكان لافتاً للنظر وغريباً أن اللجنة التى وضعت مشروع التعديلات الدستورية التى كان مفروضاً إدخالها على دستور 1971، لم تستجب لهذه المطالب والدعوات، ولم تقترح إلغاء مجلس الشورى، وأن الإعلان الدستورى أخذ بوجهة نظرها فى الإبقاء عليه، واكتفى بتقليص سلطاته، وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل تعديلات 2007، والأكثر مدعاة للدهشة من ذلك، هو أن جميع القوى التى اعترضت على مشروع التعديلات الدستورية، وعلى الإعلان الدستورى، نسيت مطلب إلغاء هذا المجلس ووافقت على وجوده، بل اندفعت تتنافس على الحصول على مقاعده، وتتقدم للترشح إليه على الرغم من علمها بأنه كان ومازال وسيظل زائدة دستورية لا حاجة إليها! وكما كان الحال خلال العقود الثلاثة الماضية، فقد بات من المؤكد أن الإقبال على عمليتى الترشح والتصويت فى انتخابات مجلس الشورى، التى تجرى على 180 مقعداً بينهم 120 مقعداً بالقائمة الحزبية و60 على المقعد الفردى، يضاف إليهم 90 نائباً يعينهم رئيس الجمهورية، سيكون أقل بكثير من الإقبال الذى شهدته انتخابات مجلس الشعب، على الرغم من تغير المناخ السياسى الذى تجرى فيه الانتخابات، لإدراك الجميع بأنهم حتى لو فازوا بأغلبية مقاعد المجلس، فقد فازوا بقبض الريح! ويثير إجراء انتخابات مجلس الشورى، فضلاً عن إهدار الوقت والمال مسائل معقدة تتعلق باحتمالات المستقبل، صحيح أن الأعضاء المنتخبين سيشاركون طبقاً لنصوص الإعلان الدستورى فى اختيار لجنة المائة التى ستضع مسودة الدستور، إلا أن احتمالات الإبقاء عليه فى هذه المسودة تبدو احتمالات ضئيلة، فالاتجاه العام السائد بين القوى السياسى هو المطالبة بإلغائه، إذ طل على الصورة غير المجدية التى هى عليه الآن، ولو أن مسودة الدستور الجديد أخذت بفكرة إلغائه، فسوف يعنى ذلك حله بعد انتخابه، وهو أمر لا شك أنه سيجد مقاومة من هؤلاء الذين فازوا بعضويته، وربما من الأحزاب التى ينتمى إليها، وإذا أخذت اللجنة بالبديل الآخر الذى ألحت عليه معظم القوى السياسية منذ تأسيس مجلس الشورى، وهو أن يتحول المجلس إلى غرفة ثانية للبرلمان، تتساوى مع الغرفة الأولى، فإن ذلك يفتح باب الطعن على شرعية ودستورية الانتخابات التى سيختار على أساسها أعضاء مجلس الشورى، التى ستبدأ انتخاباتهم بعد أقل من عشرة أيام، لأن هذه الانتخابات جرت على قاعدة اختصاصات تختلف جذرياً عن القاعدة التى سيمارسون على أساسها سلطتهم. تلك مشكلة ينبغى أن تضعها كل الأطراف فى اعتبارهم عند وضع مسودة الدستور، ولا حل لها إلا أن يأخذ من سوف يصيغون الدستور بالمطلب الذى ألح عليه كثيرون، وهو أن يتحول مجلس الشورى إلى غرفة برلمانية ثانية، على أن تجرى انتخاباته بعد ثلاث سنوات من الآن طبقاً لهذه القاعدة. أما الحل الأيسر من كل هذا فهو أن يصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة الآن وليس غداً تعديلاً للإعلان الدستورى يلغى به مجلس الشورى نهائياً استناداً إلى قاعدة أنه زائدة دستورية لا ضرورة لها ولا جدوى منها!