جسد نحيل ذو ظهر محني، متكئًا على عكاز ويده تتشبث به خشية من السقوط، عيناه مدفونة بوجهه الغارق بالتجاعيد، يسير بخطوات بطيئة وهادئة وسط العالم دون أن يشعر به أحد، وهو لا يبالي لما يدور حوله. رجل أتي من زمن بعيد عاش عهود مختلفة ومتناقضة تلقى منها قصص وحكاوى يحملها بداخله، مر بالعديد من المحن والصعوبات وتركت بصمتها على وجهه، التي جعلت سفينته تغير مرساها من العمل بالمقاولات والبناء حتى عمر السبعين، لترسي به بأحد الأسواق الشعبية بالسيدة زينب يبيع الكبريت وحبال الغسيل والمناديل. يسير عم خضر الرجل التسعيني وسط الناس دون أن يشعر بضجيج من حوله فالدنيا كما أعطت له الكثير سلبت منه أيضا، فالزمن جعل العجوز ضعيف السمع يحتاج أن ترفع صوتك بجانب أحد أذنيه دون الأخرى حتى يسمعك. يستيقظ التسعيني في السابعة من الصباح الباكر ليبدأ يومه والذي ينتهي بالخامسة مساءً متجها ل "سوق الاثنين"، ويتجه نحو أحد المقاهي ليجلب له عامل القهوة الكرسي ويجلس عليه أمامها، ويحتسي كوب الشاي بالحليب، ثم يدخن العجوز "الشيشة" ويمسكها بكل حرص وبهدوء دون الحديث مع أحد. ارتسمت على يده المتشبثة بعصاه معالم الزمن المحفورة بين أصابعه بكل حدة، والواضحة بنظرة عيناه التى لا تستطيع رؤيتها لغمرها بتجاعيد وجهه الهَرم. الجميع بسوق الاثنين يعرف "عم خضر" ويساعده فيأتي أحد الشباب الصغير العامل بأحد المحال المقابلة لمحل عم خضر ويأخذ منه المفاتيح ويفتح له الكشك ويخرج عربة خشبية صغيرة متهالكة مرصوص عليها بضاعته من "كبريت ومناديل وأساتك وأحبال ومشابك". تلمح بعينيك مدى بساطة بضاعة عم خضر وتلاحظ حين النظر لها أن التراب يتراكم على بعضها مما يشعرك أنه يجلس دون أي يحاول تجديدها أو تنظيفها من الاتربة وكأنها تنتظر يده نصيبها". فيعتبره الباعة جدًا لهم، وبحكم أنه كان يقيم بتلك المنطقة قبل أن ينتقل لمنطقة النهضة، فمعارفه بها كثيرة يعطفون ويحنون عليه، فأعطى له صاحب أحد المحال بالسوق محلا صغيرا جدا يضع فيه عربته وبضاعته. فيجلس الرجل الهرم يوميًا على جانب الطريق سارحا بملكوت الله لا يكترث بشئ. عاش عم خضر قرنًا من الزمان إلا سنوات بسيطة، ورغم كبر سنه إلا أنه يظل المسئول عن نفسه ومصاريف منزله، وهبه الله القدرة على الحركة حتى وإن كانت بسيطة ولكنها تمكنه أن يسعى على رزقه، بعد أن شق أولاده السبعة كل واحد منهم طريقه، لتبقى معه ابنته وزوجة ابنه اللتان تجلسان في المنزل رافضتان العمل، ليقول البائع العجوز: "عيالي كل واحد منهم في حاله وواحد راح العراق من 10 سنين ومعرفش حاجة عنه واللي قاعدين معايا كل ما اطلب منهم يشتغلوا يعيطوا فبسكت". وكتب القدر على بائع الكبريت أن يتعرض لحادث مؤلم أجبره أن يترك عمله كصنايعي كبير ويعمل بائعا: " أنا طول عمري بشتغل كنت كوماندا كبير وشاطر وقعت من فوق محكمة باب الخلق وكان عندي ساعتها 70 سنة، كنت بعمل كورنيشة على السقالة ووقعت على الحديد وعقبال ما روحت القصر العيني لاقتني مش قادر امشي على رجلي وكأن شخص أخدني من فوق المبنى وحطتني على الأرض لكني مقدرتش اشتغل بعد كده شكرت ربنا والحمدلله ربنا بيرزقني لحد دلوقتي". ليرضى بتحول الزمن عليه من رجل قوي البنية يعمل بسن السبعين بالبناء وكأنه شابا ثلاثيني، دون كلل أو ملل مؤمنًا بكل ما وصل إليه اليوم لجسد نحيل ضعيف عاجز عن حمل حتى الكرسي الذي يجلس عليه فيقوم بجره على الأرض. واستعاد ذكريات أيام عمله بالمعمار وبمنتهى الحماس ارتفع صوت العجوز ليتباهى بمدى مهارته ويقول: "أنا كنت براقب العمال كمان، يعني عارف وعندي دراية بالنجارة والتسليح والخراطة وأي حاجة خاصة بالعمارة، وأعرف المبنى ده كام متر ويحتاج كام عمود مسلح ". استطاع العجوز ذو الشخصية الصارمة، والحنونة في نفس الوقت أن يكسب محبة من حوله فكان يعطف على من يعمل معه ولا يؤذي أحدا ويساعد من لا يجد عملا ولا يرفض طلب أي فرد يرغب في العمل، لذا أكرمه الله تعالى بمن يعطف عليه ويساعده حين وصل لهذا السن الكبير.