قال نيوت غينغريتش أحد مرشحي الحزب الجمهوري للرئاسة الأميركية، إن الفلسطينيين شعب تم اختراعه وإنهم إرهابيون، وكان واثقاً من هذا الهذر وكأنه أكاديمي متمكن، وعالم بالتاريخ والإنسان والأنتروبولوجيا، وبالسياسة الحديثة الإقليمية والدولية.. وأكد بذلك أنه جاهل ويقول كلاماً غير مسؤول، لا يستحق معه أن يكون رئيساً للولايات المتحدة، خاصة بما لبلده من تأثير على واقع بلدان العالم ومستقبلها ومستقبل السلم العالمي والأمن والأمان الذي تسعى إليه البشرية. وأعتقد أن معظم الإسرائيليين الذين يعرفون الفلسطينيين، قد استغربوا أقاويله، ولمسوا جهله، فكيف بغيرهم من الدارسين والمؤرخين! إن مثل هذه التصريحات الشاذة، تنم عن جهل بالتاريخين اليهودي والفلسطيني، وعن عدم معرفة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فكيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يمارس سياسة بلاده تجاه الوضع في الشرق الأوسط، فيما إذا انتخب رئيساً؟ ثم ألا يدل ذلك على جهله أيضاً، بمعظم القضايا العالمية، وبأسباب ومجريات الصراعات الدولية، وبالتالي ماذا سيحل بالعالم لو أصبح هذا الشخص رئيساً؟ إن المدقق في أحداث التاريخ، يصل بسهولة إلى حقيقة أن الإسرائيليين هم الشعب الذي تم اختراعه، فقد غادر اليهود فلسطين الداخلية (التي كانوا يسكنونها حتى القرن الأول الميلادي)، وتشردوا في معظم أنحاء العالم، ثم اختلطوا مع الشعوب في البلدان التي لجأوا إليها، وتزاوجوا، ونسوا لغتهم وتقاليدهم وثقافتهم، وتبنوا نهائياً ثقافة الشعوب المضيفة ولغتها وتقاليدها، جيلاً بعد جيل خلال مئات السنين. كما أن ديانتهم (اليهودية)، باعتبارها ديانة شأن كل الديانات الأخرى، كسبت أتباعاً جدداً في مختلف أنحاء العالم لم يكونوا في الأصل من سكان فلسطين، بل هم من سكان تلك البلدان. وقد قامت لليهود دولة في القرن التاسع هي دولة الخزر، وكان سكانها من أبناء وسط آسيا وليسوا من فلسطين، ثم انهارت هذه الدولة وتشرد سكانها في بلدان أوروبا الشرقية منذ ألف عام، وبدورهم تزاوجوا من سكان هذه البلدان وتبنوا ثقافاتهم ولغاتهم، إضافة إلى أن كثيرين في مختلف أنحاء العالم غيروا ديانتهم وتهودوا، ولم يعد بإمكان أحد أن يزعم أنهم إسرائيليون. وعندما حاول آباء الصهيونية، بعد قيام حركتهم، وفي مؤتمر بال في سويسرا (1897)، أن يقنعوا أعضاء المؤتمر بضرورة قيام دولة يهودية تضم يهود العالم، لاقوا رفضاً من جهة، واختلفوا على مكان إقامتها من جهة أخرى. لقد أقنعت أوساط الاستعمار، ورغبة الاستعمار البريطاني خاصة، هؤلاء اليهود بأن يقيموا هذه الدولة في فلسطين، لأسباب سياسية، فقرروا عندها غزو فلسطين وإقامة دولة فيها اسمها إسرائيل. وجهدوا بالتالي كي يتحولوا إلى شعب «إسرائيلي»، أي أن الإسرائيليين هم الشعب الذي تم اختراعه وليس الفلسطينيين. ويؤكد ذلك أن عدد اللغات التي كان يتحدث بها الإسرائيليون عند تأسيس إسرائيل، يتجاوز 120 لغة، لأنهم أتوا من 120 بلداً. وحتى الآن، ورغم الجهود المكثفة التي بذلتها الحكومات الإسرائيلية المتتابعة، لم تستطع «دولة إسرائيل» أن تخلق شعباً واحداً وقومية واحدة منسجمة، وما زالت تشكل اتحاداً بين عدة شعوب يجمعهم الرابط الديني. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن نصف الإسرائيليين ملحدون، ندرك أن الرابط القومي ذا المرجعية الدينية اليهودية، الذي تدعيه السلطات الصهيونية والإسرائيلية، لا يطاول (رغم مفهومه المتهافت) سوى نصف الإسرائيليين، فمن هو الشعب الذي تم اختراعه إذاًَ؟ من البديهي أن تصريحات هذا المرشح الأميركي للرئاسة، هي وسيلة من وسائل عديدة لكسب بعض الرأي العام الأميركي، وخاصة كسب المنظمات اليهودية الأميركية ذات النفوذ، وعلى رأسها منظمة «إيباك»، ومن المستغرب أن يبرر هذا الجاهل بالتاريخ والسياسة، لنفسه التلاعب بتوصيف الشعوب وبتاريخها، ويلصق بها تهماً ولدتها أوهامه. إن مثل هذه التصريحات تؤكد مجدداً أن السياسة الأميركية الخارجية لا تأخذ مصالح إسرائيل في اعتبارها فقط، بل أيضاً تتقبل أن تدخل المصالح الإسرائيلية في شؤونها، وتؤثر عليها وعلى انتخاب رؤسائها، بل وعلى مستقبل مصالح الشعب الأميركي من خلال انتخاب صاحب القرار فيه. كان كثيرون يعتقدون أن السياسة الأميركية بدأت تحيّد توجهاتها عن المصلحة الإسرائيلية، وذهب بعض المحللين إلى الاعتقاد بأن من الخطأ القول بوجود التماهي بين السياسة الخارجية الأميركية والمصالح الإسرائيلية، وقالوا إن المصالح الأميركية لها الأولوية، وأنه عندما يتعين اتخاذ قرار حاسم فإن الساسة الأميركيين يأخذون مصالح بلدهم بعين الاعتبار أولاً، واستشهدوا بقرار الرئيس أيزنهاور إلزام بن غوريون سحب القوات العسكرية الإسرائيلية من سيناء عام 1956. وقد تفاءل هؤلاء بانتخاب الرئيس أوباما، باعتباره من الحزب الديمقراطي ومن إثنية أميركية مضطهدة، واستناداً إلى ذلك فإنه سيكون له موقف آخر، وتبين مع مرور الوقت أن النفوذ الإسرائيلي على الإدارة الأميركية وعلى المجتمع الأميركي، أكبر مما يتصور المحللون، سواء كانوا أصدقاء للولايات المتحدة أم غير ذلك. وأكد هذا الافتراض تراجع الرئيس أوباما، وإعلانه صراحة خوفه من المنظمات اليهودية، كما جاء ذلك في الحديث بينه وبين الرئيس ساركوزي، الذي تسرب بسبب «الميكروفون» المفتوح، والذي أعرب فيه أوباما عن خشيته من أي موقف سلبي تجاه السياسة الإسرائيلية، وقد قال ذلك بلغة الشكوى (والذل والدونية)، ولعل تصريحات المرشح الجمهوري نيوت غينغريتش، تؤكد بوضوح هذه الفرضية. يعيش الشعب الفلسطيني في فلسطين منذ آلاف السنين، وتصدى الفلسطينيون للغزو المغولي والصليبي لبلادهم، ويتكلم الشعب الفلسطيني لغة واحدة، وله ثقافة واحدة، وآمال واحدة، منذ أربعة عشر قرناً على الأقل.. وعليه فهو ليس الشعب الذي تم اختراعه، وإنما «الشعب الإسرائيلي» هو الأحق بمثل هذا الوصف. نقلا عن صحيفة البيان الإماراتية