اعتصم عشرات الآلاف بميدان التحرير منذ 19 نوفمبر الماضى، وذلك بعد استخدام القوة، فى إزالة الخيام وطرد المعتصمين من الميدان من بين المصابين وعائلاتهم، وعائلات الشهداء، الذين كانوا يطالبون بحقوقهم فى العلاج، والتعويض والمعاش المقررة وقد ترددت منذ هذا اليوم الذى أسموه يوم «الإنقاذ الوطنى»، شعارات المعتصمين الذين لم يرفعوا أية يفط حزبية أو فئوية، تطالب بإقالة وزارة د. شرف وبتشكيل حكومة إنقاذ وطنى مع تشكيل مجلس رئاسى مدنى لتسلم السلطة فوراً من المجلس الأعلى للقوات المسلحة وقصر سلطات هذا المجلس على مجرد مسئولياته العسكرية فى الدفاع عن الوطن، وعلى أن تنقل خصائصه الأخرى إلى المجلس الرئاسى، ومجلس الوزراء!! وقد استمر الاعتصام مع إصرار المعتصمين على عدم فض اعتصامهم، إلا بعد تنفيذ مطالبهم، وذلك رغم أنه قد أصدر المشير رئيس المجلس الأعلى قراره، بقبول استقالة وزارة شرف وتكليف د. جمال الجنزورى، بتشكيل الوزارة مع منحه سلطة مباشرة، مسئوليات مجلس الوزراء كاملة، واعترض المعتصمون على اختيار الجنزورى وبدأوا فى ترشيح أسماء أخرى لرئاسة الوزارة الجديدة، وعلى رأسهم د. البرادعى، مع ترشيح كل من أبوالفتوح والصباحى وعدد غيرهم من المرشحين للرئاسة لعضوية هذا المجلس الرئاسى، بل انتشر خبر إعداد بعض العناصر المعتصمين بالميدان لتشكيل وزارة كاملة للإنقاذ الوطنى، وقد أشيع أنها سوف تحلف اليمين فى ميدان التحرير، وفقاً لما أذاعه بعض المعتصمين!! وفى الوقت ذاته تجمع عدة آلاف بالعباسية يهتفون ضد المعتصمين بميدان التحرير ويهتفون بحياة المشير والمجلس العسكرى ويطالبون بضرورة استمرارهما فى مباشرة اختصاصاتهما مع عدم تسليم السلطة الذى يطالب به معتصمو ميدان التحرير!! وليس لهذا الوضع المتأزم مثيل فى تاريخنا الحديث، كما هو الشأن بالنسبة لثورة 25 يناير وطبيعتها، ويدعو ذلك إلى ضرورة تحليل وتقدير الموقف وبيان ما يمكن أن يحدث بصفة شرعية سياسياً واقعياً فى مواجهة اعتصامات الشوارع والميادين، ويتعين القول بداية بأنه لا أحد ينكر حق المواطنين الدستورى المقدس فى التظاهر والاعتصام إلا أن هذا الحق الدستورى لابد أن تتم مباشرته طبقاً للإجراءات القانونية التى تمنع ممارسة هذا الحق فى الاعتداء على حقوق المواطنين، أو تعريض سلامتهم وحياتهم للخطر، ولضمان عدم تعريض الممتلكات العامة والخاصة أو المرافق العامة ووسائل النقل والمواصلات للخطر أو للضرر أو للتوقف والانقطاع، ويقتضى الأمر، كما يحدث فى الدول الديمقراطية، أن يتقدم منظمو هذه المظاهرات أو الإضرابات والاعتصامات، بطلب إلى أجهزة الأمن المختصة يحددون فيه الغرض من التظاهر والاعتصام أو الإضراب، والعدد التقريبى لمن سوف يساهمون فيها، والمكان الذى سوف تحدث به، أو يتم المرور التظاهرى خلاله، ويتعين حتماً على الجهة الأمنية أن توافق على ممارسة المواطنين لحريتهم فى التظاهر والاعتصام والإضراب السلمى طالما لا يوجد أى تهديد للأمن والسلامة العامة، وتلتزم هذه الجهة بأن تقوم بحراسة المظاهرة أو الإضراب أو الاعتصام من اندساس البلطجية والمجرمين، وأن يكون هذا التأمين بشكل جدى وفعال، لتنتهى المظاهرة أو الاعتصام أو الإضراب بدون أى ضرر أو سوء أو قتلى أو جرحى أو تلفيات.. إلخ، وطبقاً لذلك يكون عدم اتباع الإجراء القانونى الجوهرى لتأمينهم وحراستهم مخالف للقانون وللأمن العام، وفى هذه الحالة يجوز للأجهزة الأمن منع المظاهرة أو الاعتصام واستخدام القوة غير المفرطة فى تنفيذ ذلك إذا اقتضى الأمر، على أن يتم استخدام القوة بالتدرج بصورة شرعية وبعد إنذار المحتشدين.. إلخ، وطبقاً للتعليمات المقررة وفى حدود ما يقتضيه «حق الدفاع الشرعى»، ورغم ذلك فقد حدث فى ميدان التحرير منذ أيام سقوط 43 من القتلى بالرصاص الحى وبطلقات الخرطوش والطلقات المطاطية وقنابل الغاز السام كما سقط عشرات المئات من الجرحى والمصابين بل وسقط شهيد مدهوساً بمصفحة، ومن الضرورى والحتمى التحقيق العاجل مع مرتكبى هذه الجرائم الفظيعة والمحرضين عليها، حيث إن هذه المذبحة تعد عنفاً وحشياً وإجرامياً ضد المتظاهرين من أبناء الشعب بميدان التحرير!! ولابد من تقديم هؤلاء القتلة والسفاحين إلى المحاكم الجنائية كما قرر المشير وصرح د. الجنزوري!! أما فيما يتعلق بمطالب المعتصمين، فإن الحقيقة أنه يحكم البلاد منذ 12 فبراير الماضى، المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى يمارس سلطات رئيس الجمهورية ومجلسى الشعب والشورى طبقاً للشرعية الدستورية الثورية، وفى إطار ما تقضى به أحكام الدستور المؤقت الذى أصدره هذا المجلس، وبالتالى فإن سحب اختصاصات المجلس غير العسكرية الآن لا يجوز إلا بتنحى هذا المجلس عن هذه الاختصاصات بإرادته، أو بالقوة رغماً عنه!! ولا يتصور أن يتخلى المجلس عن مسئولياته تلك التى تحملها فور نجاح ثورة 25 يناير وتعهده باعتباره القوة المنظمة الأساسية فى الدولة بحماية الثورة وتحقيق أهدافها، ونقل البلاد إلى مرحلة الديمقراطية الحرة الملتزمة بالعدالة الاجتماعية بعد بناء الكيان الدستورى والسياسى للدولة، ولا يوجد سند فى الدستور المؤقت أو مبرر من الشرعية الثورية أو المعقولية، للتخلى من المجلس العسكرى عن هذه المسئوليات الوطنية، إلا بعد أن يتم فى 30 يونيو المقبل انتخاب رئيس الجمهورية!، ورغم وجود فجوة واسعة بين المجلس العسكرى والثوار فإنه لا يوجد سند من الشرعية الدستورية أو المعقولية أن يقوم المتظاهرون بمنع رئيس الوزراء من الوصول لمكتبه، أو يفرض رئيس وزراء غيره، دون موافقة السلطة الرئاسية الشرعية، المتمثلة فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومع ذلك فقد أصبح ضرورياً أن يشكل المجلس المذكور مجلساً استشارياً من عدد من العناصر الوطنية الثورية والقيادية والسياسية والفكرية لمعاونته بإبداء الرأى والمشورة فى السياسات ومشروعات القوانين وغيرها من الأمور السيادية قبل إصدار قرارات المجلس الأعلى بشأنها، وذلك بصفة مؤقتة لحين انتهاء الفترة الانتقالية حسب نصوص الدستور المؤقت وليحم الله مصر وشعبها من كل سوء. ----------- رئيس مجلس الدولة الأسبق