لم يتحدث التاريخ الإسلامي عن رجل أعنف وأكثر سفكا للدماء من هذا الرجل. تماما كما يتحدث الناس عن قذافي ليبيا في هذه الأيام. إنه الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قال أهل العلم إنه المبير الذي أنذر بقدومه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: يخرج من ثقيف كذاب ومبير (أي قاتل). التشابه بين الشخصيتين كبير. وإذا كان الإمام الذهبي قد قال في الحجاج: له حسنات مغمورة في بحر ذنوبه فإن هذا الوصف ينسحب على القذافي هو الآخر. وإذا أقررنا بأن الحجاج كان أكثر خدمة للإسلام من القذافي، فإن الأخير كان أقل سفكا للدماء من سلفه الذي قتل الصحابي عبد الله بن الزبير ومثل بجثته وعلقها عند الكعبة، وضرب عنق التابعي سعيد بن جبير. يقول عمر بن عبد العزيز في الحجاج: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم. ويقول الإمام الترمذي إن الحجاج "قتل مائة وعشرين ألفا صبرا" أي أحضرهم وأمر بقتلهم أمامه فردا فردا أو زمرا، بينما سفك القذافي خلال الثورة دماء خمسين ألفا حسب التقديرات المعلنة، فضلا عن 1400 سجين وآخرين تخلص منهم طيلة العقود التي حكم فيها ليبيا. وقف الحجاج يخطب في أهل العراق يوما فقال إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، وخاطبهم بقوله: يا أهل العراق يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق، تماما كما خاطب القذافي الثوار الليبيين بالجرذان. اعتبر الحجاج المتمردين خوارج، وكان عليه انطلاقا من هذا التصور تطهير دولة الخلافة الأموية منهم كي تبقى قوية في مواجهة الأعداء من الروم الذين حاولوا أكثر من مرة التآمر عليها. القذافي أيضا كان يظن أنه يقاتل الناتو وليس شعبه. هكذا ظن الاثنان وقد أصابا وأخطئا في هذا الظن والخطأ أكثر بكثير. وإذا كان الشبه كبيرا بين القذافي والثقفي، فإن البون شاسع بين معاصريهما من العوام والعلماء، فعاش الحجاج في وقت كان النفاق فيه نادرا نسبة إلى التلون الراهن للأسف. في زمن الحجاج، ورغم امتناع عدد كبير من الصحابة والتابعين من الخروج عليه ومنهم عبدالله بن عمر وأنس بن مالك والحسن البصري، لم يكف أحد من هؤلاء الأفاضل عن تقريع الرجل في ذروة طغيانه وبينوا للناس أن الوالي الثقفي سفاك للدماء وظالم، وقال البصري: إن الحجاج عذاب الله، وعذاب الله لا يدفعه السيف، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإنه تعالى يقول: ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون. مات هؤلاء ولم يبدلوا مواقفهم كمتلوني اليوم، وبعد وفاة الحجاج، رفض كثير من مبغضي الرجل اتهامه بالكفر في إنصاف يضرب به المثل. في زمن القذافي، وقف علماء إلى جوار الرجل والتقطت لهم الصور كالقرضاوي، وسكت بعض آخر عنه حتى إذا قامت الثورة سارعوا جميعا إلى الإفتاء بتكفيره لأنه حرَّف القرآن وأنكر السنة وكأنه لم يفعل ذلك إلا في نهاية عهده؟ لقد سكت هؤلاء عن القذافي فربما يضطرون للسفر إلى ليبيا يوما ما فاختاروا الإمساك بالعصا من منتصفها. وإذا كان التلون قد طال بعض العلماء في زماننا فإن العلمانيين لم يسلموا كعادتهم من هذا النفاق. وعندما سارع الجميع إلى تكفير القذافي، لم نرى الرفض العلماني المعتاد من رمي عقيدة اليهود والنصارى بالكفر، فهل صار التكفير بالعاطفة؟ وأين الدعاوى المحذرة من خطورة التكفير على المجتمعات وأنها دليل على التطرف والتي تصدع بها النخبة رؤوسنا ليل نهار؟ ولماذا خلد الناس بوعزيزي التونسي غفر الله له الذي أضرم في جسده النيران كبطل وهو منتحر بلا شك؟ ومن ثم أراني مضطرا بل وسعيدا بالتعبير عن تقديري الشخصي للداعية وجدي غنيم الذي ضرب مثلا في التجرد والثبات على المبدأ ومواجهة الحاكم الجائر في ذورة قوته وتوحيد معايير التكفير فليس المهم أن تكفر هذا أو ترفض تكفير ذاك. المهم أن يكون موقفك نابعا من مبدأ ثابت. الأمة بحاجة إلى أمثال الشيخ عبدالحميد كشك ممن يصدق فيهم قول الله تعالى: وما بدلوا تبديلا. هل تعلمون يا سادة ماذا فعل العلماء والعوام في زمن الحجاج؟ انشغلوا بأنفسهم وبدؤوا بها قبل غيرهم حتى كافأ الله المسلمين بموت الحجاج ولم يضعوا عصا في دبر القذافي مثلما فعل أحد الهمج في تصرف لا يرضاه إسلام في أبي جهل ولا حتى فرعون. ربما استحضروا رد علي بن أبي طالب رضي الله عنه لمن سأله لماذا وقعت الفتنة في عهدك ولم تقع في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ قال علي وقتئذ: أما عمر فكان أميرا على مثلي وأما أنا فأمير على مثلك. بعد سنوات قليلة من موت الحجاج الثقفي، نعمت البلاد بعصر أعدل الخلفاء بعد الفاروق. إنه عمر بن عبد العزيز. إن أمة ابتليت بهذا القدر من النفاق والتلون في علمائها وعلمانيها وعوامها حتى صار اجتثاث الفساد منها أمرا عسيرا للغاية لهي أمة صنعت طاغيتها بأيديها ولن تنفعها ألف ثورة. ألا ترون أننا في مصر حاولنا تطهير البلد من الفلول فاكتشفنا أننا كلنا فلول؟ المجالس المحلية والأحزاب الكارتونية والنقابات وأساتذة الجامعات ورؤساء الشركات والمحافظون والقضاة والوزراء والشرطة والصحفيون والإعلاميون والأندية ولاعبو الكرة والبلطجية؟ يا سادة كيفما تكونوا يولَّ عليكم.