لم تتوقف عظمة الأيتام عند مجال السياسة وحكم الدول وتأسيس الإمبراطوريات والزعامات وقيادة الشعوب، وإنما تجاوزت ذلك إلى مجال الإبداع والفنون بمختلف أشكالها وأنواعها، وبرز إلى العالمية فنانون وأدباء، شعراء وتشكيليون، مطربون وممثلون. ومن خلف أسوار اليتم خرج «المتنبى» الشاعر العربى فريد عصره وزمانه، والفيلسوف الشاعر جبران خليل جبران، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وفى مجال الفنون التشكيلية العالمية لن يسقط من ذاكرة التاريخ اليتيم ليوناردو دافينشى، أشهر فنانى عصر النهضة فى أوروبا. وفى مجال الفن، ولد من رحم معاناة اليتم، أعظم المطربين والممثلين والملحنين، الذين انتصروا على أحزان اليتم، وبدموع الطفولة المعذبة تقدموا صفوف الإبداع.. ومن هؤلاء عندليب الغناء العربى عبدالحليم حافظ، الذى احتفلت مصر بذكرى رحيله ال 39 قبل أيام، وكذا الفنان إسماعيل ياسين عبقرى الكوميديا الهادفة، وغيرهما من الفنانين. ولد «عبدالحليم» يوم 21 يونية 1929 بقرية الحلوات بالشرقية، ماتت أمه عقب ولادته ب 7 أيام، ومات أبوه بعد أشهر قليلة، ليصبح يتيم الأبوين.. ويتولى خاله وشقيقته الكبرى «علية» وشقيقه الأكبر «إسماعيل» تربيته، وبسبب الظروف الصعبة للأسرة يتم إرسال «حليم» إلى الملجأ، ليعيش طفولة صعبة ومؤلمة، وتكتمل المأساة بإصابته بالبلهارسيا. بعد أن تخرج فى الملجأ التحق بالمعهد العالى للموسيقى العربية، وتخصص فى العزف على آلة الأبوا. وتحدى «عبدالحليم» اليتم والمرض والظروف وصنع موهبته بنفسه ليبقى بعد 39 عاماً من رحيله أسطورة الغناء العربى. أما الفنان الكوميدى الراحل إسماعيل ياسين, فقد ولد فى مدينة السويس عام 1912 وماتت أمه وهو فى سن مبكرة للغاية، واضطر أبوه للزواج من امرأة أخرى، ليعيش إسماعيل ياسين طفولة معذبة أجبرته الدنيا على الخروج للعمل فى سن مبكرة جداً، حتى يستطيع العيش ويعوض انشغال والده بزوجته.. وقبل أن يكمل «إسماعيل» عشرين عاماً قرر السفر إلى القاهرة بحثاً عن عمل، وفى العاصمة حقق الحلم والمجد.. ووجد يتيم الأم نفسه فى فن المونولوج، ويعمل بالعديد من الفرق أشهرها فرقة «بديعة مصابنى»، واعتباراً من عام 1940 بدأ مشواره فى عالم التمثيل بالمشاركة فى بطولة فيلم «نور الدين والبحارة الثلاثة» مع على الكسار، ليصبح أشهر فنان كوميدى فى تاريخ السينما، حتى رحيله يوم 24 مايو 1972. ومن الأيتام فى عالم الفن أيضاً النجم الراحل نور الشريف، أو محمد جابر، الذى ولد بالقاهرة 1946، مات أبوه فى سن مبكرة للغاية، واضطرت والدته للزواج فى سن الشباب، وهو ما أغضب الطفل نور، الذى تولى عمه تربيته، وظل هاجس الموت يطارد «نور» طيلة حياته، خوفاً من أن يتوفى مبكراً هو الآخر مثلما رحل والده، وهو فى سن السادسة والعشرين. وتغلب «نور» على هذه الحالة وانطلق فى عالم التمثيل ليصبح نجم النجوم حتى رحيله يوم 11 أغسطس 2015. أما الفنان أحمد زكى أو «النمر الأسود» الذى ولد بمحافظة الشرقية 1949، مات أبوه بعد أيام من مولده، وتزوجت والدته من شخص آخر، وبسبب هذا الموقف حزن أحمد زكى واتخذ موقفاً من والدته، وظل على هذا الموقف طيلة حياته. ومضى «النمر الأسود» محطماً يأس اليتم، واستطاع إثبات وجوده فى سنوات معدودة، ليصبح أحد أشهر الفنانين فى تاريخ السينما المصرية، ومنذ أيام احتفلنا بمرور 11 عاماً على رحيله.