سجل جلال الدين الحمامصى موقف المصريين فى وجه ورفض الجماعة فى مقال له بعنوان «الشعب الذى يقول لا» فقد أكد الحمامصى، وعى المصريين فى وجه القتلة عندما قال «كلما قرأت الاعترافات التى يدلى بها المتهمون فى قضايا الجهاز السرى للإخوان المسلمين أحسست بالإشفاق والألم». الإشفاق على مصر التى سعت طويلاً نحو الاستقرار، فلما أوشكت أن تحققه أبى فريق من أبنائها إلا أن يحيلوا هذا الاستقرار الى فوضى، وخراب، ودمار.. سعياً وراء حكم، وجرياً وراء سلطان!! أما الألم فمن أجل أولئك الذين اعترفوا بأنهم كانوا ضحية لعملية من أخطر عمليات الخداع والتخدير السياسى، وبأن فهمهم لاتفاقية الجلاء كان من زاوية عكسية، صنعها المتآمرون وحاولوا بها أن يثيروا الناحية الوطنية فى قلوب بعض المساكين من الفئات التى تسمع لنفر من الناس، ولكنها لا تبحث ولا تدقق! وهذا الألم من جانبى، لا يعنى العطف على هؤلاد الجهلاء! أو أن يكون مقدمة للمطالبة بمعاملتهم بالرأفة.. بل لعل ما أريده هو العكس، فقد حان الوقت لكى نطالب كل مواطن بألا ينصاع الا لضميره،وحكمه الشخصى، بل يجب عليه أن يسأل بنفسه ويقرأ بنفسه إن أمكنه أن يقرأ ويواصل الدرس والبحث قبل أن يبدى رأيه النهائى. إن من الخطأ القول بأن الثورة قد قضت تماماً على العقلية القديمة، التى كانت تركع بآرائها للزعامات والقيادات، فما زال الانصياع الأعمى قائماً، ومازالت هناك زعامات تسعى إلى اذلال الناس، وجبرهم على الاذعان لآرائهم الخاطئة المضللة. لهذا نرى أن هذه الفترة التى تمر بها مصر - وهى أخطر فترات تاريخها الحديث - يجب أن تكون فترة تطهير من التعصب.. بل يجب أن تكون فترة تطهير من كل الآراء التى يراد فرضها بالدم، حتى تظهر فى عهد الاستقلال بمظهر العارفين بقيمة الاستقلال فى الرأى، والفكرة، والمبدأ.. والحكم على الأشياء بحقائقها الكاملة. إننا نريد شعباً يقول «لا»، يقولها فى كل وقت، وفى كل حين، متى تطلب الموقف أن يقول كلمة «لا» وبغير هذا.. ما قيمة الاستقلال؟ وجاءت نهاية «الوثيقة المفرومة» لكتاب «هؤلاء هم الاخوان» لتسجل حدثاً مهما فى حياة الزعيم الذى حاولت الجماعة اغتياله فى المنشية إذ كتب المفكر الفلسطينى ناصر الدين النشاشيبى حواراً دار بينه وبين جمال عبد الناصر فى بيته وروى عبدالناصر اسرار وكواليس محاولة اغتياله على يد الجهاز السرى للاخوان وهو الحوار الوثيقة الذى تم فرمه مع كتاب «هؤلاء هم الاخوان» وذلك للعداء الشديد بين الزعيم عبدالناصر وجماعة الاخوان المتأسلمين وتربصهم به خاصة، وبأعضاء مجلس قيادة الثورة وبأفراد وضباط الجيش والشرطة. كما سجل النشاشيبى الحوار كاملاً جاء فيه: فى بيت جمال عبدالناصر، وعلى المقاعد القليلة التي صادقت رجال الثورة فسمعت أحاديثهم وحبست أسرارهم ورأت فى اليوم الموعود فجر ثورتهم.. فى ذلك البيت الفقير بكل ما فيه الغنى بكل من فيه، جلست الى رئيس وزراء مصر استمع اليه وهو يروى على مسمعى قصة ذلك اليوم: يوم المنشية.. وثمانى رصاصات.. ربع مليون إنسان! وقلت لجمال عبدالناصر: - هل هى التجربة الأولى؟ وضحك الثائر الأول وقال: - لعلها العاشرة.. بل المائة، بل الألف! فقد واجهت رصاص اسرائيل شهوراً طويلة وأنا انتقل بين الفالوجة و«عراق المنشية» كان طريقى فى تلك الأيام هدفاً دائماً لرصاصهم وقنابلهم، كنت أقطع أميالاً طويلة وأنا أرافق الانفجارات وأدارى الألغام، كان الموت سميرى وملازمى وصديق أيامى، وقد عرفته ورأيته وعشت معه، والذى يواجه الموت من أجل فلسطين.. لايهرب منه من أجل مصر..! قلت: وهذه التجربة الأخيرة.. - تجربة المنشية والرصاصات الغادرة الثماني؟ وبنفس الأعصاب الهادئة الصخرية، الأعصاب التى هيأت للثورة أسبابها يوم طردت فاروق وألغت الملكية واقتحمت الصعاب وحققت الجلاء.. بهذه الأعصاب الصلبة التى لا تظلم ولا تستبد بدأ جمال عبد الناصر يقول لى: لم تصدق عيناى ما سمعته أذناي! لم أصدق أن هذا اليوم الذى يُلهب بصرى هو النار التى تحمل معها رصاصات الغدر الى صدرى. لم أصدق أن بين هذه الآلاف التى احتشدت أمامى تهتف بحياة مصر، انساناً واحداً يهتف بحياة الموت لجمال عبدالناصر، كان صوت الرصاص يقرع سمعى وأنا أسائل نفسى فى أسى وذهول، أنا..؟ أنا المقصود؟! ومضى جمال يقول: وسمعت الرصاصة الأولى فالثانية فالثالثة فالرابعة، وحاولت أن أتقى باقى الرصاصات فأحنيت رأسى قليلاً ثم عدت لأواجه بقية الغدر والجبن والخيانة، ولم أعد أرى شيئاً أو أحس بشىء. لقد رأيت أمامى جموع الناس تتدافع فى ذعر وهلع، وسمعت فى أعماق نفسى صوتاً يهتف بى لمناداتها فأدعوها للبقاء، لقد صرخت بدمى وأعصابى: أيها الرجال فليبق كل فى مكانه!.. ورحت أكرر هذا النداء فى عبارات سريعة متتالية، لقد شعرت بواجبى فى أن أعيد إلى ذلك الجو هدوءه واستقراره، وكان يهمنى ألا يعكر أمن ذلك البلد الحبيب أى حادث ولو كان حادث اعتداء على حياتى وفرحت وأنا أرى الجموع المحتشدة تعود إلى اماكنها لحظات خاطفة وتمنيت لو كان هناك مصور صحفى ليسجل اللحظات العصيبة.