الأرقام صادمة.. قرارات وزارية تحرم خزانة الدولة كل عام من الحصول على عدة مليارات من الجنيهات لتذهب إلى خزائن شركات المحمول أرباحاً فاحشة من أموال الشعب المصرى. المهزلة.. أو الجريمة -سمها ما شئت- يتحمل مسئوليتها أكثر من وزير اتصالات، وبمفهوم المسئولية التضامنية للحكومة تتحمل الحكومات السابقة المسئولية كاملة عن استمرار حرمان خزينة الدولة من الحصول على حقها الطبيعى من هذه المليارات سنوياً. وهذه هى الحكاية تدعمها المعلومات الموثوقة، وتفاصيلها المذهلة التى تثير آلافاً من علامات الاستفهام، وتقدم نموذجاً صارخاً لسطوة رأسمال وقدرته على توجيه القرارات والسياسات للوزارات المختلفة. المليارات للشركات الأجنبية حكاية هذه المهزلة مليئة بالأسرار والألغاز، نستعرض جانباً من هذه الحكاية بالتفصيل لندرك حجم الفساد أو الخلل الذى تسبب فى إهدار هذه المليارات. 1- بدأت خدمة الهاتف المحمول فى مصر عام 1996 وكان من الطبيعى أن تتولى الشركة الوطنية (الشركة المصرية للاتصالات)، تشغيل هذه الخدمة، فهذه الشركة تملك البنية التحتية التى تحتاجها هذه الخدمة ولا تحتاج لأكثر من إنشاء أبراج التقوية وبعض التجهيزات التى تحتاجها هذه الخدمة الجديدة. بدأت الشركة الوطنية تشغيل هذه الخدمة بنجاح وحققت إيرادات جيدة، وكانت 80٪ من هذه الإيرادات تتدفق إلى الخزانة العامة.. والباقى يحصل عليه مواطنون مصريون أو مؤسسات وطنية ساهموا فى الشركة الوطنية بنسبة 20٪. 2- فى عام 1998 رأت حكومة «الجنزورى» أن سوق الهاتف المحمول فى مصر سوق واعد وقابل للنمو السريع، وقررت وزارة الاتصالات طرح الرخصة الثانية لتشغيل الهاتف المحمول فى مزاد علنى. جذب المزاد العديد من الشركات الخاصة المصرية والأجنبية، وتقدم تحالف مكون من شركة فودافون الإنجليزية ورجل الأعمال المصرى (المرحوم) محمد نصير، تقدم هذا التحالف بأعلى عرض وفاز فعلاً برخصة التشغيل الثانية. وكانت المنافسة فى هذا المزاد سجالاً بين التحالف الفائز (فودافون) وتحالف آخر يضم شركة فرانس تليكوم الفرنسية ورجل الأعمال المصرى نجيب ساويرس الذى خسر فى المنافسة أمام تحالف فودافون. 3- فى خطوة مفاجئة، ودون تقديم أسباب منطقية أو حتى مبررات قررت الحكومة بيع الرخصة التى تملكها الشركة الوطنية (المصرية للاتصالات) لتحالف شركة فرانس تليكوم ورجل الأعمال نجيب ساويرس. سر تراجع الوزارة! 4- فى عام 2003 نشرت الصحف مانشيتات لتصريحات أدلى بها الرئيس الأسبق حسنى مبارك يؤكد فيها أن الشركة المصرية للاتصالات سوف تحصل على رخصة ثالثة لتشغيل المحمول. وجاء هذا التصريح بعد كتابات صحفية وتقارير تؤكد أن سوق الهاتف المحمول تنمو بسرعة رهيبة وأن الشركة الوطنية من حقها أن تشارك فى المنافسة فى هذا السوق الواعد. 5- قامت الشركة المصرية للاتصالات بدفع مبلغ مليارى جنيه مصرى نظير حصولها على الترددات الخاصة بهذه الرخصة الثالثة. 6- حشدت الشركتان العاملتان (فودافون وموبينيل) جهودهما ومارستا ضغوطاً عنيفة على الحكومة. وتولى الدكتور نظيف، وزير الاتصالات فى هذا الوقت، مهمة إقناع الرئيس الأسبق «مبارك» بعدم منح الشركة المصرية للاتصالات رخصة جديدة. واقترح أن تحصل الشركة المصرية للاتصالات على 49٪ من أسهم شركة فودافون وبالفعل رضخت الحكومة للضغوط ولم تحصل الشركة المصرية على الرخصة الثالثة مقابل مشاركتها فى فودافون. 7- فى عام 2006، طرحت الحكومة رخصة ثالثة لتشغيل المحمول وفازت بها شركة اتصالات الإماراتية مقابل 16٫7 مليار جنيه مصرى، وكان هذا مؤشرا واضحا على أن سوق تشغيل المحمول فى مصر شديد الجاذبية للمستثمرين. الرخصة الموحدة المعطلة لم تتوقف جهود الشركة المصرية للاتصالات عن محاولة الحصول على رخصة لتشغيل المحمول إيمانا من المسئولين بالشركة بأن سوق تشغيل المحمول مازال قابلاً لدخول منافسين جدد. بعد ثورة يناير تجدد الأمل لدى مجلس إدارة الشركة المصرية للاتصالات فى أن تحصل على رخصة رابعة وقدمت الشركة الدراسات الفنية والمالية التى تثبت بشكل قاطع ردودا منطقية وعملية على جميع الحجج التى كان لوبى شركات المحمول يتذرع بها لمنع الشركة المصرية من الحصول على رخصة محمول رابعة. الإطاحة بوزير الاتصالات بدأت بوادر نجاح محاولات الشركة الوطنية «المصرية للاتصالات» باقتناع وزير الاتصالات عاطف حلمى بضرورة حصول الشركة الوطنية على الرخصة الرابعة وفق شروط أعلنها وزير الاتصالات فى مؤتمر صحفى فى أبريل 2014، وأكد فيها ضرورة وأهمية حصول الشركة الوطنية للرخصة الرابعة، وفى مايو 2014 قامت الشركة الوطنية بالفعل بتسديد مبلغ 2٫5 مليار «مليارين وخمسمائة مليون جنيه» قيمة الرخص المحددة من الجهاز القومى لتنظيم الاتصالات. هذا التوجه الجديد أزعج لوبى شركات المحمول ونشطت الاتصالات ووضعت الخطط الكفيلة بتوجيه ضربة قاضية لمحاولات منح الشركة الوطنية الرخصة الرابعة، كان قرار لوبى شركات المحمول واضحا. الضربة القاضية يجب أن توجه إلى الوزير مباشرة ضمانا لإغلاق هذا الباب تماما، وتم تغيير الوزير فى التعديل الوزارى وتولى منصب وزير الاتصالات خالد نجم. بدأ الصدام بخطاب أرسله مساعد وزير الاتصالات الى رئيس مجلس إدارة الشركة المصرية للاتصالات المهندس محمد النواوى يأمره بتخفيض القيمة الإيجارية للبنية التحتية التى تؤجرها الشركة المصرية لشركات المحمول والتى تم التعاقد عليها بالفعل مع هذه الشركات، وبرر مساعد الوزير هذا الطلب بأن هذا التخفيض فى القيمة الإيجارية، سيمكن شركات المحمول من تخفيض أسعار الإنترنت للمواطنين. ورد رئيس الشركة بأن مجلس الإدارة بعد دراسة هذا الطلب يرفض التخفيض المطلوب لاعتبارين: الأول: أن العقد أبرم برضا الطرفين والعقد شريعة المتعاقدين، ولا يوجد مبرر لتخفيضه. ثانياً: الاحتجاج بأن التخفيض يمكن شركات المحمول من تخفيض أسعار الإنترنت للمواطنين مردود عليه بأن هذه الشركات تحصل من المواطنين على عدة أضعاف من القيمة التى تدفعها وتستطيع هذه الشركات لو أرادت أن تخفض الأسعار للمواطنين بأكثر من 50٪ وتظل مع ذلك تحقق أرباحاً هائلة. ولم يتردد مساعد الوزير فى اتخاذ القرار بإقالة رئيس مجلس إدارة الشركة المصرية للاتصالات المهندس محمد النواوى وعدد من معاونيه، ونشرت الصحف تفاصيل هذا الصراع، وبدا واضحاً أن لوبى شركات المحمول قد تمكن من توجيه ضربة قاضية للشركة المصرية للاتصالات وأن ملف الرخصة الرابعة الموحدة قد تم إغلاقه تماماً. فى التغيير الوزارى قبل الأخير تم استبعاد وزير الاتصالات خالد نجم، وكانت الإطاحة بوزير الاتصالات مؤشراً على أن ملف الرخصة الرابعة الموحدة يمكن أن يفتح من جديد وأن تفتح معه الملفات الكاملة لكواليس الصراع الذى خاضته الشركة الوطنية «المصرية للاتصالات» مع مافيا شركات المحمول. وبدا واضحاً أن وزير الاتصالات المهندس ياسر القاضى بعد إعادة الاستقرار والهدوء إلى الوزارة قد بدأ فى دراسة كافة الملفات وفى مقدمتها الرخصة الرابعة الموحدة، دراسة موضوعية دون أى انحياز مسبق لأى طرف. وتتحدث أخبار كثيرة عن اقتناع الوزير ياسر القاضى بوجهة النظر التى تبناها مجلس إدارة الشركة المصرية للاتصالات التى تسببت فى الإطاحة برئيس مجلس الإدارة المهندس محمد النواوى وعدد من معاونيه، وأن الوزير يفكر جدياً فى تصحيح الأوضاع بالوزارة والشركة المصرية للاتصالات وإعادة الاعتبار لمن ثبت أنهم لم يستسلموا لضغوط شركات المحمول وأصروا على تحقيق المصلحة العليا للوطن والمواطنين من خلال حصول الشركة الوطنية على الرخصة الرابعة الموحدة المستحقة فعلاً للشركة حتى تحصل خزينة الدولة على المليارات المستحقة لها من سوق تشغيل المحمول. يبقى هنا أن أناشد السيد رئيس الجمهورية أن يولى هذا الأمر ما يستحق من عناية، ويستطيع الرئيس أن يستمع إلى المعلومات الموثوقة فى هذا الموضوع من وزير الاتصالات ومن الجهات الرقابية المعنية ومن خبراء محايدين يثق فى أمانتهم ونزاهتهم. وأعلم أن لوبى شركات المحمول سوف يركز فى المرحلة القادمة على أمرين: الأول: منع وزير الاتصالات من تصحيح الأوضاع بإعادة القيادات التى استبعدها الوزير السابق استجابة لضغوط لوبى شركات المحمول حتى لا تتعثر محاولات الرخصة الرابعة الموحدة وتدخل نفق إعادة الدراسات وتشكيل اللجان وأمثال هذه الإجراءات الكفيلة بوأد أى مشروع. الثاني: دفع البعض للصراخ محذرين من أن هذه الرخصة الرابعة سوف تؤثر سلباً على مناخ الاستثمار العام. وهذا منطق فاسد ومغالطة مكشوفة، فالمستثمر الجاد يرحب بكل منافسة عادلة وتتوفر لها كل الشروط الموضوعية التى تضمن منافسة شريفة وموضوعية تخضع لقواعد السوق وتتساوى فيه المراكز القانونية لكل المتنافسين.