إن المتأمل في نصوص القرآن، يجد أن تزكية النفس مقدمة على تعلم العلوم الشرعية للقرآن والسنة, وتأمل قوله تعالى: { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } [ البقرة:151]. وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ آل عمران: 164 ]، وقوله: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } ] الجمعة: 2 [. وبتأمل الأيات السابقة نجد أنه سبحانه حينما تكلم عن إرسال الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، حدد مهمته في التزكية ثم تعليم الكتاب والسنة. وانظر الفرق بين ذلك، وبين قول البشر الذين يتعجلون العلم ويريدونه قبل حدوث تزكية النفس، كما جاء على لسان إبراهيم عليه السلام، كما في قوله عز وجل: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } ] البقرة: 129 [، حيث قدّم تعليم الكتاب والسنة على التزكية. وتزكية النفس بدايتها ونهايتها التوحيد. ويدخل في ذلك تطهير النفس من أمراضها وتحقيقها بكمالاتها. ومنعها المحرمات وإقامتها للطاعات والأمر واسع جدا. وتزكية الأمة بإقامة شرع الله كاملا، والأمر كذلك واسع. والتزكية في الحقيقة شيء زائد على العلم. فالعلم يعطي القواعد والبيان لكل شيء. أما التزكية فهي تطبيق هذا العلم على النفس البشرية، وأمراضها، وأغراضها، ومعرفة بالتطبيب وطرقه، ومعرفة بالكمال وكيفية النقل إليه، وأدوات ذلك، وفراسة خاصة بكل نفس لنقلها من حال إلى حال. وهذا شيء للكسب فيه نصيب. ولكن عطاء الله هو الأساس ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) البقرة: 269 ولم يشرع الإسلام العبادات بكافة صورها طقوسا ولا شعائر مجردة من المعنى والمضمون، بل إن كل عبادة تحمل في جوهرها قيمة أخلاقية مطلوب أن تنعكس على سلوك المسلم المؤدي لهذه العبادة، وأن تتضح جليا في شخصيته وتعاملاته مع الغير، وأيضا فيما يرسمه لذاته من إطار يحرص على الالتزام به ولا يحيد عنه. إن العبادة هي علاقة بينك وبين ربك، أما السلوك فهو علاقة بينك وبين الناس. ولابد أن تنعكس العلاقة بينك وبين ربك على العلاقة بينك وبين أفراد المجتمع، فتحسنها وتهذبها، وإلا فما علاقة أنالصلاة – مثلا – تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما في قوله تبارك وتعالى:( إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (العنكبوت: 45 فالفحشاء والمنكر هما جماع الأقوال البذيئة والأفعال السيئة، وهما لا يظهران إلا في التعامل مع الناس في المجتمع. كما أن العبادة، وإن كانت هي علاقة بينك وبين ربك، إلا أن السلوك يتجلى فيها أيضا. ففي الصلاة، أنت مأمور بأداء الصلاة في جماعة، لكي تحتك بالناس وتتفاعل معهم. والمرأة مأمورة بعدم الخروج للمسجد متعطرة متبرجة حتى لا تفتن الرجال. وفي الزكاة، إذا أعطيت المحتاج مالا ثم مننت عليه، فقد أبطلت صدقتك. وفي الحج، أنت مأمور بضبط الأخلاق أثناء الزحام. وهكذا، ففي كل عبادة، يتجلى مظهر من مظاهر السلوك، الذي يجب أن تتحلى به وتلتزم به.