طبيعته المزاجية ونشأته التي شابها الكثير من الفساد والتساهل، جعلاه بعيدًا دوما عن التدين.. تأتيه لحظات رقة قلب، أو موعظة تحرك فؤاده، ولكنه سرعان ما يغفل ويتلهى.. هكذا مضت سنوات عمره الخمسون، حتى بدأت الحياة تتبدل من حوله.. زوجته وابناه تغيرت أحوالهم، فلم يمنعهم ما ألفوه،وما تشربوه من أفكار تهمش الدين وتعطيه فضلات الأوقات والمشاعر والأعمال.. لم يمنعهم هذا من أن يلتزموا بدين الله تعالى، وبقي هو يقاوم.. يفرح بهم حينا.. وينأى عنهم كثيرا. كان يشعر بأنه حتى ولو تمنى من داخله أن يشاركهم، أن يكون مثلهم، فإن الكثير من الحواجز ستمنعه.. فكرة المواظبة على الصلاة بحد ذاتها بدت شاقة. الإقلاع عن التدخين الذي رافقه منذ مراهقته الأولى كان كالحلم المستحيل.. التخلص من بعض العادات السيئة مع الرفاق والصحبة... أن تكون له النظرة الأولى وعليه الثانية! فضلا عن الانتهاء عن المزاح والمخالطة مع القاصيات والدانيات. كل هذه الأمور وغيرها كانت تبعده عن الإقبال معهم على التدين، كانت تصور له حياة الملتزمين جافة وشديدة الانضباط رغم ما كان يتراءى له فيها من سكينة وراحة. ولكنه في النهاية بفضل الله ثم لشدة ترابط أسرته، وحرص زوجته وابنيه على هدايته، أقبل واقترب. بدأ يحافظ على الصلوات.. وإن تكاسل شجعه بإصرار المحب ابنه ذي الثمانية عشر ربيعًا، وإن هاتفه بعض أصدقاء السوء طلبت منه ابنته الأصغر أن يصطحبها إلى حلقة علم في مسجد بعيد، والزوجة المحبة من وراء ذلك تجس نبض زوجها، فإذا شعرت بملله خلقت أجواء مرحة، لعب وخروج ومزاح.. وإذا انزاحت غمة الملل، وانقشعت سحابة المزاج السيء وضعت بين يديه كتيبات علم وتذكرة.. أو شاركته قراءة تفسير آية أو شرح حديث. في شهور قليلة تغير حاله.. أحب هذه الأجواء الإيمانية، وجدها حانية ومشوقة لا جفاف فيها ولا سأم، شعر برحمة الله التي تداركته، وأذنت له بتوبة بعد أن اشتعل الرأس شيبا. ولكن إلف العادات كان يعرقله، كلما تقدم خطوة دفعه إلى الوراء خطوات.. تدخين وسهر وكسل، وإدمان على التلفاز بغثه وسمينه، حتى كان أول رمضان له في عالم الالتزام.. وبين الطاعة والمعصية، بين المساجد التي لأول مرة في حياته يقتبس من نورها في الشهر الفضيل، وصيام عرف لأول مرة معناه ولمس جوهره، وبين حشود المسلسلات والبرامج التافهة التي تفتن المسلمين والمسلمات وتضيع عليهم اغتنام رمضان. وبعد أن مضى نصف الشهر .. بدأ ابنه يعد عدته للاعتكاف، كان الأمر للأب صادمًا.. أن ينام في المسجد 10 أيام، ظل يجادل ويناقش.. لماذا لا نصلي طوال الليل في المسجد ثم نعود لننام في بيوتنا؟! فيرد الابن باسما: الاعتكاف بحد ذاته عبادة.. إنها تلك الأيام الخالصة التي يشرع للمسلم أن يتبتل فيها وينقطع إلى العبادة والذكر ويفرغ من الدنيا وأمورها. فيحاول ثانية: ثق بي يا بني سأتبتل.. سأنقطع إلى العبادة وأعتكف في البيت! ليأتيه الرد: ولكن الاعتكاف لا يكون للرجل إلا في المسجد.. هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ساقه الله إلى الاعتكاف وسط حذر زوجته وابنيه، وترقبهم أن يقطع الاعتكاف في الليلة الأولى ويعود، فقد تعود على الفراش الوثير، والحياة الرغدة.. لم يعتد يومًا أن يخدم نفسه، حياته تتسم بالمزاجية الشديدة فلا يشارك الآخرين إلا ما يريد. كانت ليلته الأولى عسيرة.. نوم على الأرض، شبه انعدام للخصوصية، والأهم: لا سجائر! ولكنه صبر وتماسك، وأصر على استكمال العشرة أيام.. وقد جعل الله كل يوم في حياته نقلة تقدر بأعوام. لقد كانت هذه الأيام والليالي أفضل أوقات عمره، صنعه الله فيها من جديد.. وتغيرت حياته جذريا، أقلع عن التدخين دون عناء أو نكوص، عرف طعم المحبة والأخوة في الله فانتهت كل صلة بأصدقاء السوء، تعلم الصبر والانضباط.. واختبر أعماقًا جديدة لحب الله وخشيته.. وولد من جديد!