زرت تركيا مؤخرا ضمن برنامج ينظمه مكتب العلاقات الدبلوماسية برئاسة مجلس الوزراء التركي لمدة أسبوع تقريبا في النصف الأول من هذا الشهر. يستهدف البرنامج—وفق ما هو معلن— استضافة وفود من دول ما يسمى ب«الربيع العربي»، لإطلاعهم على الأحوال في تركيا. ويتضمن البرنامج مقابلات مع مسئولين وقياديين في الحكومة والحزب الحاكم «العدالة والتنمية»، وبعض الأكاديميين، وأصحاب المراكز البحثية والاستراتيجية، بالإضافة إلى بعض المؤسسات الإعلامية والمؤسسة الدينية الكبرى في تركيا. سأحاول الكتابة عن التجربة بشكل عام في نقاط متتالية قد تبدو غير مترابطة. كانت هناك بعض الأخطاء التنظيمية من قبل المشرفين على البرنامج، كما أن البرنامج كان مكثفا للغاية ومرهق جدا وغير ملائم للحيز الزمني للزيارة. كذلك، لم يكن لاختيار أعضاء الوفد من الشباب أي معيار محدد. فمثلا، جاءتني الدعوة عن طريق صديق يعمل بمركز القاهرة للثقافات التركية، ولا أعلم على أي أساس تم اختياري أو اختيار الأعضاء المشاركين في الوفد. إلا أن الأمر الجيد هو أن الوفد كان به شباب من مختلف التيارات (إخوان– سلفيون– سلفيو كوستا– برادعيون– التيار المصري– مستقلون– ليبراليون). كنت أعتقد أن الوفود الأخرى القادمة من دول الربيع العربي ستكون معنا، لكن اتضح لنا أن كل وفد يأتي على حده، وعلمنا أن الوفد التونسي والليبي جاءوا قبلنا والوفد اليمني سيأتي بعدنا. وكنت أرى أن الأفضل أن تكون هذه الوفود كلها في وقت واحد حتى يتم التواصل فينا بينها. كذلك لم يوجد تمثيل للشباب التركي بحيث يتم التواصل بين الشباب المصري ونظيره التركي بعيدا عن المؤسسات الرسمية، وحتى يتم خلق قنوات اتصال مجتمعي بين شباب البلدين. كان البرنامج يركز في الأساس على محاولة إبهار الوفد بالتجربة التركية ويركز على «السردية الحكومية» والرواية الخاصة بالحزب الحاكم. وكأي حكومة، بالطبع كل شيء ممتاز ومشرق. لذلك كان الأفضل والأنسب أن يتضمن البرنامج مقابلات مع ممثلي أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، إضافة لوجود ممثلين لشباب الجامعات أو الشباب التركي بشكل عام، حتى تكون الصورة مكتملة والرواية متعددة المصادر. لكنني أثناء اجتماعنا مع أعضاء من حزب العدالة والتنمية، تقابلت مع شاب تركي ينتمي فكريا لحركة أربكان وتحاورت معه قليلا وعلمت منه أنه غير راض عن أداء حزب العدالة والتنمية وتبادلنا عناوين البريد الالكتروني ليستمر التواصل بيننا، وأعتقد أن هذا الأمر من أفضل الأشياء التي خرجت بها من الزيارة. لم يتضمن برنامج المقابلات حوارا حقيقيا، بل بدا أشبه بحوار من جانب واحد، وكأنها رسالة يراد تلقينها للحاضرين. وكان هناك تكرار لما يقال، وأغلب الأسئلة المهمة لم يتم الرد عليها بشكل صريح ومباشر. لذلك أعتقد أن الهدف المرجو من البرنامج لن يتحقق إلا إذا حدث تواصل بعد رجوعنا إلى مصر، وسنرى ما سيتمخض عنه هذا التواصل. بمعنى آخر، تبادلنا العناوين الإلكترونية مع من قابلناهم وأبدوا استعدادهم للتعاون معنا. لذلك، فالاختبار الحقيقي لهذا الكلام سيتضح من التنفيذ العملي لهذه الوعود. كما أنه إذا كان الهدف فعلا هو «التواصل»، كان من المهم الاستماع لوجهات نظرنا بشكل أكبر وإتاحة الفرصة لنا للحديث بشكل أعمق. حين تقابلنا مع نائب رئيس الوزراء، السيد/ بشير أتلاي، سألته عن التجربة الاقتصادية في تركيا، خاصة وأن الكثيرين في مصر يتغنون بالتجربة التركية على الرغم من أن أهم شعارات الثورة المصرية كانت «العدالة الاجتماعية»، ونحن نعلم أن تركيا تتبع سياسة اقتصاد السوق المفتوح والسياسيات الاقتصادية النيوليبرالية، فكيف يمكن لهذه السياسات أن تحقق العدالة الاجتماعية؟! جاءت إجابته دبلوماسية وعلى طريقة: «نحن حققنا كذا وكذا .. وارتفع متوسط دخل الفرد من كذا إلى كذا» وهكذا .. دون أن يطلعنا عما إذا كان هذا الارتفاع في متوسط دخل الفرد يتناسب طرديا مع ارتفاع الأسعار، ويفي بالاحتياجات الأساسية للحياة الكريمة؟ أشد ما أزعجني في تركيا انتشار صورة مصطفى كمال (أتاتورك) في كل مكان، وفي جميع المؤسسات الرسمية وحتى في مقر حزب العدالة والتنمية! هذا المنظر المقزز لم أجد له مثيلا إلا في ليبيا القذافي، ولا أفهم كيف لدولة تدعي أنها ديمقراطية أن تقبل بهذه التصرفات، فصور أتاتورك المنتشرة ذكرتني برواية أورويل «1984» ومقولة: «الأخ الأكبر يراقبك». وترتب على كثافة البرنامج أنه لم تكن هناك فرصة حقيقية لزيارة معالم البلاد أو التجول بها، وحتى لو تم ذلك فإن أقصى ما يمكن رصده خلال أسبوع مجرد «انطباعات» سريعة، وليست أحكاما أو تحليلات. لكن هذه الانطباعات كانت كافية تماما لتبديد أية أوهام يتشبث بها البعض في مصر حول تركيا «الإسلامية». ما أدركته من هذه الزيارة أن التجربة التركية لا تختلف مطلقا عن التجربة الدنمركية. فتركيا مثلها مثل السويد أو ألمانيا أو الدنمرك أو أي دولة أوربية عالجت مشكلة النظافة والمرور، وتحاول أن تحل مشاكل المواطنين، وتعمل على التقدم المادي وتطوير الصناعات وزيادة الإنتاج، ولا أثر لما يسمى ب«التجربة الإسلامية»، فما وجدته هو حزب استطاع أن يقدم خدمات ويحل مشاكل المواطنين، ولا يجوز اختزال الإسلام في هذا البعد المادي، فأي حكومة تستخدم المنهج العلمي، وتتجنب الفساد تستطيع أن تحل مشاكل المواطنين، ولم أجد أن حزب العدالة والتنمية يقدم نفسه على أنه حزب «إسلامي»، فهم يصفون أنفسهم ب«المحافظين»، ولا يقدمون أنفسهم على أنهم أصحاب مرجعية إسلامية. هم فقط يجتهدون لحل مشاكل المواطنين. لذلك فنقد التجربة التركية والحكم عليها يجب أن يكون من داخل سياقها وعدم سحبها لواقع ومجتمع مختلف. أبرز الاختلافات بين الواقع المصري والتركي: اللغة، وتجذر العلمانية في المجتمع قبل الدولة، وحماية الجيش لها ووضعه الخاص في الدستور. من ناحية أخرى، في مصر قامت ثورة، ولم يحدث مثلها في تركيا. فالمسار في تركيا سياسي إصلاحي، والمسار في مصر بدأ ثوريا، ولا سامح الله من أوصلنا لما نحن فيه الآن. أما أوجه التشابه بين الواقع المصري والتركيا فأهمها النزاع المدني العسكري، ووجود أقليات عرقية (كالأكراد في تركيا والبدو والنوبة في مصر)، والامتداد التاريخي والوحدة الثقافية التاريخية. من الإيجابيات التي تعلمتها خلال الزيارة عندما التقينا بشير أتلاي– نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية الأسبق- وأستاذ علم الاجتماع بإحدى الجامعات هناك، حكى لنا باختصار عن تجربته في وزارة الدخلية، وأبهرني بأنه من الممكن جدا الربط بين التنظير والحركة، وأنه يمكن للمفكر أو العالم أن يشغل منصبا تنفيذيا ويجيد فيه. ولاحظت إدراك الأتراك لأهمية المراكز البحثية وبنوك الأفكار، حيث يتم الصرف عليها وتعزيزها بالتمويل والحفاظ على استقلاليتها في نفس الوقت، وإداركهم أيضا لأهمية القوة الناعمة واستخدامهم لها وخاصة في أفريقيا، ونبذ خطاب الاستقطاب والعمل على خدمة المواطنين، والعمل الدؤوب والبعد عن التقعر والتراشق الفكري والاستقطاب الأيديولوجي، والاعتزاز باللغة التركية، فكانت كل المحاضرات بالتركية–باستثناء اثنتين كانتا بالعربية. وبرغم كون تركيا دولة سياحية، فإن كافة اللافتات في الشوارع مكتوبة باللغة التركية فقط. كما لاحظت أهمية العمل التنموي والتطوعي عند الأتراك. من الأمور التي أكدتها لي هذه التجربة أن من السهل تغيير واقع مادي وبناء «دولة»، لكن من الصعب جدا تغيير روح إنسان وبناء «الاجتماع». كذلك، أصبحت أكثر كراهية وعداء للدولة القومية الحديثة التي تتعارض بطبيعتها مع أهم ما يميز الإنسان وهو حريته في اختيار انتماءاته وتحيزاته، وسأكتب عن هذا الموضوع بشكل منفصل ومفصل إن شاء الله. وقد ثبت لي بالدليل القاطع أن المصريين– رغم عيوبهم وسلبياتهم- يظلون أجدع وأطيب شعب، قلبهم أبيض ومتسامح، ودمهم خفيف ولا يكفون عن الضحك.