كان أحيكام دفيد، المراسل العسكري لصحيفة "معاريف"، الذي طالب كلاً من المستوى السياسي وقادة الجيش في الكيان الصهيوني بأن يبلغوا المستوطنين الذين يقطنون المستوطنات المحيطة بقطاع غزة بشكل صريح بأنّه لا تتوفر لدى "إسرائيل" القدرة على منع إطلاق الصواريخ على قطاع غزة. دفيد، في مقاله الذي نشره الأحد الماضي (18-3)، انضم لعدد من المعلقين الصهاينة الذين يرون أنّ المتحدثين باسم الحكومة يضللون الرأي العام الإسرائيلي عبر الخطب الرنانة كي يغطّوا على الحقيقة المتمثلة في عدم القدرة على جلب الهدوء للمستوطنات. إنّ السبب الرئيس وراء الشعور المتعاظم بالإحباط لدى الدوائر الإسرائيلية من عدم القدرة على وقف إطلاق الصواريخ هو حقيقة أنّ "إسرائيل" التي تمكّنت من مراكمة قوة الردع في مواجهة الدول العربية وحتى حزب الله، غير قادرة على ردع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، رغم أنّها الحلقة الأضعف من بين الأطراف التي يمكن أن تكون طرف في مواجهة مع الكيان الصهيوني. وقد ضاق المعلق العسكري البارز عوفر شيلح ذرعاً بمصطلح الردع (هرتعا بالعبرية)، لأنه المفهوم الذي لا يمكن أن ينطبق على الفلسطينيين، كما دلّت التجربة. وفي هذا السياق من الأهمية أن نشير للعبارة الشهيرة التي أطلقها إيهود باراك عندما تسرّح من الجيش، كرئيس هيئة أركان عام 1993، عندما قال: "الفلسطينيون كالوسادة، كلّما وجّهت لها لكمة عادت كما هي". لكن ما هي الأسباب التي دفعت "إسرائيل" لعدم الردع بقوة كبيرة على عمليات إطلاق الصواريخ التي تمّت بعد أن أعلن عن التهدئة، مع العلم أنّه تم استخدام صواريخ غراد، وصلت بئر السبع وأسدود؟ إنّ هناك عدة أسباب تفسّر حرص "إسرائيل" الواضح على عدم إطالة أمد المواجهة الأخيرة مع المقاومة الفلسطينية، ويمكن حصرها في التالي: أولاً: تبدو "إسرائيل" معنية تماماً بتركيز أنظار المجتمع الدولي والقوى العظمى على وجه الخصوص على البرنامج النووي الإيراني، على اعتبار أنّه يشكّل تهديداً وجودياً بكل ما تعني الكلمة. لذا فقد وجد نتنياهو نفسه عالقاً في وضع غير مريح، فبينما وضع كل ثقله أثناء زيارته الأخيرة في الولاياتالمتحدة لتجنيد إدارة أوباما للعمل ضد إيران، جاء التصعيد العسكري الأخير على قطاع غزة ليكون محور اهتمام عالمي آخر، وأصبحت تل أبيب عنوان لمناشدة المجتمع الدولي لها بوقف العدوان. ثانياً: فوجئت "إسرائيل"، ليس فقط بعدد الصواريخ التي أطلقت من قبل المقاومة الفلسطينية خلال فترة التصعيد، بل بنوعيتها. وحسب القيادة العسكرية الإسرائيلية، فإنّ كثافة الصواريخ التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية خلال التصعيد على "إسرائيل" أكبر من كثافة الصواريخ التي أطلقت على "إسرائيل" خلال حربي لبنان الثانية 2006 والحرب الإسرائيلية على غزة 2008. صحيح أنّ منظومة "القبة الحديدية" المضادة للصواريخ قد نجحت في إسقاط عدد كبير من صواريخ المقاومة، إلاّ أنّ هناك عدد آخر قد سقط في مناطق حساسة، بل إنّ الجيش الإسرائيلي حظر على وسائل الإعلام الإسرائيلية الإشارة إلى الأمكنة المحددة لسقوط عدد من الصواريخ نظراً لحيوية هذه الأمكنة التي سقطت الصواريخ فيها أو بالقرب منها، وذلك حتى لا تساعد المقاومة في التعرف على الأماكن التي يتوجّب توجيه المقذوفات صوبها. ثالثاً: خشيت "إسرائيل" أن تطلق فصائل المقاومة صواريخ ذات مدى أبعد، بحيث تصل إلى ضواحي تل أبيب، وتصيب مطار بن غوريون، وتصل حتى القدس، وهذا يعني تغيير الواقع بشكل جذري، ويدخل حكومة نتنياهو في حرج شديد أمام الرأي العام الإسرائيلي، إذ ستخرج "إسرائيل" عندها لحملة عسكرية منظّمة إلى داخل قطاع غزة، وهذه ستكون وصفة لورطة تضرّ بمصالح "إسرائيل" في هذا الوقت تحديداً. رابعاً: خشيت "إسرائيل" أن يؤدي استمرار المواجهة إلى انضمام حركة حماس، وتحديداً "كتائب عز الدين القسام"، وهذا سيغيّر أصول المواجهة أيضاً، ويضع حداً لقدرة "إسرائيل" على المناورة في الساحة الفلسطينية الداخلية. خامساً: تبدي "إسرائيل" اهتماماً كبيراً بردة الفعل المصرية وهي ترى أنّه في حال تمكّنت من الاستغناء عن شن حملات عسكرية كبيرة ضد قطاع غزة، فإنّ هذا مطلوب حتى لا يتم إحراج المجلس العسكري الذي يتعرض لضغوط كبيرة من قبل النخبة السياسية والرأي العام بشأن اتخاذ خطوات ضد "إسرائيل"، لا سيما وأنّ هناك في مصر من يطالب بقوة بإعادة النظر في اتفاقية "كامب ديفيد"، التي تعتبر أهم أعمدة الأمن "القومي" الصهيوني. إنّ ما تقدّم يجب ألاّ يلفت أنظار الفصائل الفلسطينية إلى مكامن الخلل التي كشفها التصعيد الأخير، وهي كالتالي: * على الرغم من كل ما تقدّم، فإنّ 26 فلسطينياً ما بين مقاوم ومدني قد استشهدوا، ويتوجّب الاعتراف بأنّ هذا يمثّل خسارة للشعب الفلسطيني، يتوجّب تقليص مظاهرها في المواجهات القادمة. * لقد نجحت "إسرائيل" في توظيف المواجهة الأخيرة للعب على التناقضات الداخلية الفلسطينية والتشكيك في مدى الالتزام المبدئي لفصائل فلسطينية بالمقاومة. * لقد عكست المواجهة الأخيرة واقع الفوضى السائد في القطاع في كل ما يتعلق بالمقاومة، فبعد أن تم التوصل لإعلان التهدئة، كانت هناك بعض المجموعات التي لم تلتزم بذلك، وهذا يمس بمصداقية المقاومة الفلسطينية ليس أمام "إسرائيل"، بل أمام الأطراف التي تقوم بدور الوساطة.