لو سُأِلَ أشد المتفائلين قبل شهرين فقط عن إمكانية حدوث ما حدث في تونس، وما جرى ويجري في مصر اليوم، وفي دول عربية أخرى آثرت أنظمتها استباق العاصفة وحني الرأس وإن قليلا أمام شعوبها، لما كان تنبأ بما يجري بهذه السرعة وهذه الكثافة. وهنا نسأل الله المغفرة لذلك الشاب التونسي، محمد البوعزيزي، والذي أحرق نفسه انتفاضا لكرامة ظن كثيرون أنها محيت من قاموس أمة العرب. فشعوب تحيى بؤس المعاش وقمع النظام وانعدام المستقبل وذلة الارتهان للخارج.. كان لابد لها يوما من أن تنتفض على جبروت الحاكم الطاغية، وكان للحم محمد الذي شوته ألهبة الإهانة قبل ألسنة النار شرف السبق في تفجير هدير شعوب ظن كثيرون أنها ماتت. ترى كم من محمد البوعزيزي (رجل أو امرأة) أُشْعِلَتْ بجسده النيران وانتهك عقليا وعاطفيا وجسديا وجنسيا في أقبية سفاحي شعوبهم!؟ الجواب آلاف مؤلفة، بل وصل الاغترار والصلف بزبانية "الفوضى" المسماة ظلما وزورا وبهتانا ب"الأنظمة" أن يصوروا ضحايا إجرامهم على كاميرات هواتفهم وهم يفضّون أعراضهم ويعلقونهم كما الخراف ويضربونهم بلؤم كما لو كانوا أثاثا من صوف يتم نفضه. فعل زبانية الطغاة ذلك لأنهم لم يتوقعوا أن يأتي يوم يكون فيه حساب، وهذا ما أراح كبراؤهم في الشر والظلم، فلم يعمدوا إلى الأخذ على أيديهم، ليس حبا وشفقة على شعوبهم المستأمنين عليهم، وإنما من باب التحسس لغضب قادم قد ينفجر في وجوههم يوما ما. ولذلك لم يكن زين العابدين بن علي ليهتم أبدا لصفع شرطية مسكونة بمرض الاستعلاء والتجبر الذي رضعته من لؤم "فوضاه" لمحمد ولا كذلك لحرق هذا الأخير نفسه لولا أن تفجر طوفان الغضب على "نظامه" وكاد يوشك أن يقتلعه من جذوره، قبل أن يحقق بعض من ذلك فعلا. ولعلي أجزم أن السؤال المركزي الذي أرقَّ بن علي حينها، ولا زال، تمحور حول ما الذي حصل هذه المرة وجعل الشعب يثور على أمر أوقعه بهم كل يوم!؟ ولما لم تجد تهديدات بن علي وجرائم "بلطجيته" على الأرض نفعا في قمع شعب ظن أنه خانع له لا يمكن له يوما أن يرفع رأسه مقابله، خرج الطاغية على شعبه ليقول له بتذلل: "فهمتكم"، ولكن الشعب أجابه بعزة هذه المرة: "فهمناك أيضا". فكانت النتيجة أن لا يجد بلدا تقبل به وبمحيطه القذر إلا بعد طول عناء، ولكن ليس قبل أن يلفظه كل حلفاء الأمس من قوى الاستعمار البائدة والحديثة، ممن كانوا يقدمون له الغطاء السياسي والأمني لقمع شعبه. "{48} وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (الأنفال). "{16} كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ" (الحشر). مصر لم تكن بعيدة عما يجري في تونس، فالغيض قد بلغ من شعبها مبلغه. "أم الدنيا" أضحت تحت نظام مبارك ذيل تبعية ذليل للغرب ولإسرائيل. عمق العروبة أضحت تحت نظام مبارك تباهي بفرعونيتها وتتمرد على عروبتها، بل وخرج نجل حسني مبارك بعد "واقعة" مصر والجزائر في كرة القدم ليعلن عبر إحدى القنوات المصرية بأن مصر لا تربطها صلة بالعروبة! ثقل المنطقة ومرساتها أضحت تحت حكم مبارك خفيفة لا قيمة لها مقارنة بدول لا تعدلها بشيء إن تاريخا أو سكانا أو مساحة أو موقعا أو كفاءات.. الخ. مصر القائدة لعالم العرب، وبلد الأشاوس والرجال، ومحضن الثقافة والأنوار، وعمق الإسلام ومدارسه الإحيائية، تحولت تحت مبارك إلى دولة لا يحسب لها أحد حسابا، اللهم إلا إذا كانت مواقفها متوافقة مع مواقف القوى الإمبريالية وتبعا لها. من يصدق أن مصر التي قَدَّمَتْ للأمة الكثير، وَقَدَمَتْ الأمة لها الكثير، هي من تحاصر قطاع غزة اليوم المكتظ بمليون ونصف مليون إنسان!؟ ومن يصدق أن المواطن المصري، ابن الدولة الأهم والأكبر والأعرق عربيا، يسام كل أنواع الإهانة والانتقاص في دول عربية لا تداني مصر وشعبها في شيء؟ حتى جامعات مصر، منارات العرب الماضية، أضحت شهاداتها تحت مبارك بحاجة إلى معادلة في بعض الدول الخليجية؟ لقد أجهض مبارك و"فوضاه" مصر، وسعوا للحط من كرامة المواطن المصري داخليا، وظنوا أنهم قد نجحوا في ذلك، وأنهم قد أضحوا بسبب ذلك في مأمن. فهاهي أشرطة الفيديو عن انتهاك الأعراض والتعذيب، للرجال والنساء على السواء في أقسام الشرطة، توضع على "يوتوب" والشعب لا يتحرك.. وهاهم رجال ونساء مصر الأجمل والأشرف يعتقلون ويسامون سوء العذاب ولا أحد يجرؤ على التحدي، اللهم خلا بعض الحركات والتجمعات النخبوية.. وهاهو "الدكتاتور الكبير" يسعى لتوريث "الدكتاتور الصغير" دون خشية من ردة فعل تعصف بكرسيه.. وهاهي بعض أقلية دينية تسعى لفرض أجندتها على كل الوطن، والنظام يبطش بالغالبية العظمى من السكان ويرهن مصالح "الدولة" وأمنها الاجتماعي لصالح أقلية متنفذة داخل صفوف أقلية دينية وسكانية. نعم، لقد ظن مبارك أنه نجح في سحق كرامة شعبه، وبأنه وهم مؤهلون لينطبق عليهم قول رب البرية جلَّ وعلا في توصيف حال فرعون وقومه: "{54} فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ" (الزخرف). ولكن ما لم يكن بالحسبان، وعلى عكس توقعات وزير خارجيته أحمد أبو الغيط الذي كابر بأن ما جرى في تونس لا يمكن أن يجري في مصر، أقول ما لم يجر في حسبان مبارك "وفوضاه" بأن شعب مصر ليس قوم فرعون، حتى وإن كان هو شخصيا متقمص لبذاءة فرعون. حينما قاد شباب مصر المتعالي على كل الأطر والتنظيمات والأحزاب غضبة العزة والكرامة، لم يجد مبارك بدا إلا أن يستلهم منطق ملهمه فرعون: "{71} قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى" (طه). فكان أن جَّيَشَ "فرعون اليوم" أجهزته الأمنية للبطش بشعب عافه وعاف "فوضاه"، ولم ينس أن يلمز من طرف الإخوان المسلمين كما لمز من قبله "فرعون الأمس" من طرف موسى عليه السلام: "{52} أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ" (الزخرف). فها هو "فرعون اليوم" يحذر من حكم الإخوان المزعوم وما سيترتب عليه من مآس لمصر وللعالم، ثمَّ يَزْعُمُ لشعب مصر أنه يمثل الأمن والاستقرار وبدليه هو الفوضى وانعدام الأمن. ولكن ما يعجز "فرعون اليوم" عن فهمه هو ذات الأمر الذي عجز عنه"فرعون الأمس"، ألا وهو أن الشعب يثور على استعباده وضد مُسْتَعْبِدِهِ بالدرجة الأولى. ولكن فرعون لا ييأس بسرعة: "{51} وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ". (الزخرف) بالطبع، فإن المسألة في منطق فرعون اليوم والأمس تنحصر في: {29 مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" (غافر). ولكن لأن الشعب شب عن الطوق وأستوعب ألاعيب فرعون فإنه لا يستجيب له. وحتى عندما ينسحب الأمن فجأة من الشوارع ويحتلها "بلطجية" فرعون في مسعى منه لإقناعهم بأنه يمثل الأمن والاستقرار وبأن بديله هو انعدامهما، يزداد الشعب قناعة بأن فرعون هو المشكلة. وعندما وجد "فرعون اليوم" نفسه أمام ثورة أكبر مما توقع قبلا، بدأ خطاب التذلل والتواضع، وذلك على درب ملهمه "فرعون الأمس". ف"فرعون الأمس" الذي تبجح على قومه بقوله "ما أريكم إلا ما أرى"، اضطر أمام "زلزلة" الواقع إلى أن يستعطف قومه وينزل عن بعض كبرياءه لهم: "{109} قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. {110} يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ" (الأعراف). وهاهو "فرعون اليوم"، يضطر إلى تعيين نائب له بعد أكثر من ثلاثين عام من الرفض، كما هاهو يستعطف ويطلب "احترام" تاريخه وما "قدمه" لمصر، وبأن يسمح له بإتمام مدته الرئاسية الدستورية لبضعة أشهر أخرى، على وعد إلغاء فكرة التوريث وقيادة إصلاحات ديمقراطية وسياسية ودستورية حقيقة، كان أمامه 30 عاما لتحقيقها ولم يفعل. على أي حال، ذهب "فرعون الأمس" غير مأسوف عليه، وبإذن الله سيذهب "فرعون اليوم" غير مأسوف عليه أيضا. وسواء أنجحت ثورة مصر في قلع مبارك و"فوضاه" من جذورهما أم لا، إلا أن ثمة شيئا واحدا مؤكدا، ألا وهو أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء مجددا، وأن ما نشهده اليوم هي رياح تغيير ستقتلع من يقف في طريقها من أنظمة "فوضى" شاخت وأساءت لدولها ولشعوبها.كما أن ما نشهده من محاولات تجميلية وترقيعية في بعض الدول العربية التي تتحسس "فوضاها" رؤوسها لن تجدي نفعا أمام هدير التغيير القادم والجارف.