د.مازن النجار \n\n طالت التغيرات المناخية والبيئية مجالات عديدة من حياة سكان الأرض، تتراوح من دمار واسع النطاق للمحاصيل الأساسية، وانكماش رقعة الأرض المنزرعة وجفاف أقاليم، إلى أعاصير وفيضانات تجرف الأرض الزراعية لأقاليم أخرى، وتراجع التنوع الحيوي في البر والبحر، واختفاء أو انقراض أنواع حيوية. يضاف لذلك، تأثير التغيرات المناخية واحترار الأرض على زيادة انتشار الأوبئة واتساع نطاقها ووصولها لبقاع لم تعرفها سابقاً.\nوكان فريق بحث دولي مختص، بالصحة البيئية والأمراض المعدية، وجد أن تغير طبيعة سطح الأرض الناجمة عن النشاط البشري تؤدي لتغير في أنماط انتشار الأمراض المعدية، أو ظهور أمراض أخرى وبائية، كما جاء في دراسة لهم نشرت قبل أربع سنوات بدورية \"آفاق الصحة البيئية\".\nوقد ذكر الدكتور جوناثان باتز، الأستاذ بجامعة ويسكونسن وقائد فريق البحث، أن النشاطات الاقتصادية أو التنموية التي تقوم بها الدول، كشق الطرق، وبناء السدود، وتطوير شبكات الري، وتجفيف البرك والمستنقعات، وتقسيم الغابات، أو تقليصها لتوسيع المدن وزيادة الرقعة الحضرية، تتيح الفرصة لانتشار عشرات الأمراض المعدية، وتتحول لأوبئة. وأمثلة ذلك الملاريا والإيدز ومرض لايْم ومرض جنون البقر والحمى الصفراء والكوليرا والأنفلونزا ومرض سارس وحمى الضنك (دِنغ)، وحمى النزف. \nوكانت دراسة أخرى، أجراها باحثون بجامعة مشيغن، قد وجدت أن زيادة محدودة بدرجات حرارة الطقس يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع ملحوظ في انتشار مرض حمى الملاريا بهضاب شرق أفريقية. وهذا ينقض أبحاثاً أخرى سابقة نفت الزيادة بدرجات حرارة طقس المناطق المرتفعة التي ارتفع فيها مستوى الإصابة بوباء الملاريا.\nوكان الافتراض الذائع تقليدياً لدى خبراء الأوبئة أن انتشار الملاريا يكون محدوداً في معظم الهضاب، نظراً لاعتدال المناخ وانخفاض درجات الحرارة هناك. يحد هذا الانخفاض بدوره من وجود وتكاثر البعوض الناقل للمرض. لكن الباحثين يشيرون لأن الارتفاع العالمي بدرجات الحرارة، والذي لم يعد موضع خلاف كبير بالأوساط العلمية، يمكن أن يقلب هذه الوضع.\nوكانت مجلة \"نيتشر\" البريطانية قد نشرت، منذ سنوات، بحثاً يظهر أن مستوى الإصابة بالملاريا في حالة صعود في بوروندي وكينيا وروندا وأوغندا، رغم عدم ارتفاع درجات الحرارة بتلك البلاد.\nالاحترار وحمى الضنك\nوكان علماء البيئة الأستراليون قد طوروا نموذجاً حاسوبياً جديداً للتنبؤ بتأثير التغيرات المناخية على البعوضة الناقلة لطفيل مرض حمّى الضنك (الدنغ) في أسترالية، مما يتيح حصيلة معرفية تساعد على الحد من انتشار الوباء. صمم النموذج الجديد باحثون بجامعة ملبورن بقيادة مايكل كيرني، ونشرت حصيلة الدراسة بدورية \"الإيكولوجيا الوظيفية\" البريطانية.\nوبحسب الدراسة الجديدة، يمكن للتغيرات المناخية والتغير التطوري (البيولوجي) أن يعملا معاً لتسريع وتوسيع نطاق انتشار البعوض الناقل لحمّى الضنك. بيد أن السلوك أو رد الفعل البشري، في صورة تخزين مياه الأمطار كمحاولة للتكيف مع تغير المناخ نحو الجفاف، من المرجّح أن يكون له تأثير أعظم.\nيقول الدكتور كيرني أن التأثير المباشر الممكن للتغير المناخي على انتشار وتكاثر بعوضة حمّى الضنك يعتبر ثانوياً لدى مقارنته بالتأثير الممكن للسلوك البشري إزاء تخزين مياه الأمطار.\nفي كثير من المدن والبلدات الأسترالية، هناك أثر كبير لتغير المناخ، مثل تراجع مستويات تساقط الأمطار، مما يؤدي إلى زيادة دراماتيكية في كميات المخزون المحلي من مياه المطار في صورة مياه مكتنزة بمختلف أشكال ووسائل الاكتناز.\nمناخات التكاثر\nفصهاريج المياه وغيرها من حاويات وأحواض التخزين هي المواقع المحتملة لتكاثر البعوض الحامل لذلك المرض. وبدون توخي الحذر إزاء نظافة وتطهير خزانات المياه، قد يؤدي هذا التأثير غير المباشر لتغير المناخ، عبر رد الفعل البشري للتكيف مع الجفاف، إلى اتساع هائل لنطاق الانتشار الراهن للبعوض.\nيرجح العلماء أن البعوضة الناقلة لحمّى الضنك قد وصلت أسترالية في القرن التاسع عشر بواسطة السفن التي حملت براميل مياه ملوثة بيرقات هذه البعوضة. وخلال أواخر القرن التاسع عشر، اتّسع انتشار بعوضة \"آيدس آيجبتاي\" في المناطق الحضرية فوصلت جنوباً حتى مدينتي سيدني وبيرث.\nوبحلول أواخر الستينات الماضية، كان وجود البعوضة مقتصراً على الشطر الشمالي من ولاية كوينزلَند، حيث تقطن تجمعاتها حالياً، ويعود ذلك التراجع جزئياً إلى إزالة صهاريج القصدير المجلفن القديمة لتخزين مياه الأمطار، وتركيب أنابيب نقل المياه، والمبيدات الحشرية، ومحركات آلات قطع الأعشاب التي تمكن الناس من تنظيف حدائقهم الخلفية جيداً.\nالدراسة الجديدة لها آثار كبيرة على برامج الصحة العامة في أسترالية وغيرها من مناطق العالم المتأثرة بحمى الضنك وغيرها من الأوبئة التي ينشرها البعوض. وبحسب الدكتور سكوت رتشي، خبير مكافحة البعوض وأحد مؤلفي الدراسة، كلما تحسن فهم العلماء لعمليات الانتشار الأساسية، كلما تحسنت القدرة على إدارة مخاطر الوباء في المستقبل.\nتشير معطيات الدراسة إلى أن تجمعات البعوض الناقل لحمى الضنك تستطيع الانتشار، في مناطق لا تتواجد فيها حالياً، بمجرد توافر مواقع مناسبة لتكاثرها ودورة حياتها، مثل حاويات المياه والمستنقعات، وغيرها. يأمل الباحثون أن تساعد دراستهم في استهداف حملات الإرشاد بأهمية تطهير المياه الملوثة في المناطق الأكثر تعرضاً لظهور واستيطان البعوض الناقل لحمى الضنك.\nأهمية التطور البيولوجي\nجاءت هذه التنبؤات من نموذج محاكاة حاسوبية يعمل من \"القاعدة إلى القمة\"، ويأخذ بالاعتبار بيولوجية البعوضة ومحدودياتها الفسيولوجية (الوظيفية)، مثل قدرة بيضها على تحمل الجفاف أو التجفيف.\nوفي سياق بناء هذا النموذج الحاسوبي، احتاج الدكتور كيرني وزملاؤه إلى توقع المناخات الدقيقة التي يعيشها البعوض. ومثل كل أنواع البعوض، تمر بعوضة الضنك (في دورة حياتها) بطور اليرقة المائية، ولها خصوصية مميزة لدى تكاثرها في حاويات اصطناعية مثل صهاريج المياه والدلاء وإطارات السيارات القديمة.\nلذلك قام الباحثون بتطوير نموذجاً لدرجات حرارة وأعماق المياه لمختلف الحاويات كدالة أو مؤشرات على تغير المناخ. وطبقوا فرضيات النموذج على قياسين مختلفين تماماً من الحاويات.\nأحدهما خزان مياه كبير سعته 3600 لتراً من الماء، يتلقى الماء من سطح لتجميع مياه الأمطار، والآخر دلو بالغ الصغر سعته 20 لتراً يستقبل الماء من الأمطار مباشرة. وتم دراسة كل منهما في حالتي امتداد الظل وانحساره.\nكذلك رأى الباحثون أهمية أن يأخذوا تطوّر البعوضة بيولوجياً بعين الاعتبار، وهي المرة الأولى التي يدخل فيها هذا الأمر لدى تطوير نماذج محاكاة.\nوبحسب البروفسور آري هوفمَن، أحد مؤلفي الدراسة، يحدث هذا التطور في الطبيعة طوال الوقت، وربما بوتيرة متسارعة جداً، بحيث لا يحتاج لأكثر من بضع أجيال لكي يؤثر على قدرات عموم النوع. في هذا السياق، أظهرت نتائج الباحثين الأستراليين أن احتساب عامل التطور قد يؤدي إلى فارق كبير جداً لدى التنبؤ بتغير نطاقات انتشار الأنواع (الحشرية مثلاً) في ظل تغير المناخ.