غير أن كثافة تلك اللحظة, وما صحبها من هياج عاطفي عارم, قد خلفا وراءهما سؤالاً رئيسياً لا يزال بحاجة إلى إجابة: برحيل سوريا أو قواتها على الأقل, من سيملأ فراغ السلطة الذي خلفته وراءها؟ وفي تلك اللحظة لم تبرز إيران إلى السطح باعتبارها إجابة على السؤال. إلا أن ذلك كان هو الواقع الجاري تحت السطح, على حد تأكيدات المسؤولين الحكوميين والقادة والمحللين السياسيين هنا في بيروت. فبحكم نفوذها طويل الأمد في لبنان, استطاعت إيران تعزيز ذلك النفوذ إثر الانسحاب السوري, عبر علاقاتها القوية والثابتة ب\"حزب الله\" الشيعي. وذلك هو في الواقع ما أعطى طهران قوتها في معركة المواجهة الشرسة التي تخوضها مع الولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا, بشأن برنامجها النووي. \r\n وفيما لو تزايدت الضغوط الدولية على إيران في تلك المعركة النووية, فسيكون في وسعها الاعتماد على حلفائها في لبنان, وكذلك على نفوذها في العراق, علاوة على إمكانية استخدامها لسلاح النفط. وفي حين كانت لإيران اليد الطولى في إنشاء وتمويل وتدريب \"حزب الله\", إلا أن سوريا هي التي حصدت الثمار, وذلك بتحكمها وإدارتها للعلاقات بين الفصائل الشيعية والفلسطينيين المنتشرين في مختلف أنحاء لبنان. لكن على إثر انسحاب سوريا من الأراضي اللبنانية, أصبح في مقدور طهران و\"حزب الله\", التعاون وتوطيد العلاقات بينهما أكثر من أي وقت مضى. كما يلاحظ أن أعضاء \"حزب الله\", أصبحوا أعضاء في الحكومة اللبنانية لأول مرة في تاريخ البلاد, مما يعطي أهمية متعاظمة لتوطيد وترسيخ العلاقات ما بين طهران والحركة الشيعية اللبنانية. \r\n تلك هي نقطة الضعف بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية وللبنان على حد سواء. والمشكلة أن الوحدة اللبنانية تظل عصية وصعبة المنال, طالما ظل لبنان مسرحاً للنفوذ والمصالح الأجنبية. وقد أكد هذا نسيب لحود المسيحي الماروني, المشرع وسفير لبنان السابق لدى الولاياتالمتحدة الأميركية, مبرزاً أن النفوذ الشيعي لا يقتصر على لبنان وحده, وإنما يطال المنطقة برمتها. ومضى المتحدث مستطرداً في القول: \"إننا نسعى إلى بناء علاقات طيبة ومتوازنة مع الجميع, في الوقت ذاته الذي نرفض فيه تحويل لبنان إلى مسرح تعترك فيه القوى الإقليمية والدولية\". وكان القادة السياسيون قد عقدوا لقاءً قريباً هنا, فيما عرف أنه بداية للحوار الوطني, وهو بمثابة فرصة للسعي لتسوية النزاعات التي طالما احتدمت واشتد أوارها. وكان هناك نقاش بشأن نزع أسلحة المليشيات اللبنانية –مثلما هو حال \"حزب الله\"- والتباحث حول ما يمكن فعله إزاء تشبث الرئيس الحالي إميل لحود بمنصبه, على الرغم من تضاؤل قدرته على الاستمرار, بسبب الضغوط الممارسة عليه بالتنحي, لكونه حليفاً ثابتاً واستراتيجياً لسوريا. \r\n لكن حتى قبل بدء انعقاد تلك الاجتماعات واللقاءات, تكهن مسؤولون حكوميون بأن قدرة لبنان على تسوية أشد نزاعاته الداخلية سخونة وتعقيداً, تعتمد كلية على القرارات التي تتخذ في كل من واشنطنوطهران. إلى ذلك قال شارل رزق وزير العدل اللبناني, إنه مع التنامي الملحوظ لدور كل من \"حزب الله\" وإيران في لبنان, فإن أمل بلاد الأرز في تحقيق وحدتها الوطنية, أصبح عالقاً بالتفاؤل في اتفاق كل من واشنطنوطهران على الحوار فيما بينهما على الأقل. ويا له من حلم عصي وبعيد كبعد احتمال إبرام صفقة سلام بين سوريا وإسرائيل, على حد قول بعض المسؤولين. وعلى رغم خضوع لبنان تاريخياً لكل هذا التدخل الشديد الوطء والاستثنائي في شؤونه الداخلية, إلا أن الحقيقة الباقية –على رغم مرارتها- هي أن ذلك هو الواقع اللبناني عارياً على حاله. \r\n والمعروف أن طهران ظلت على امتداد سنوات عديدة, تعمل كما لو كانت \"ملازماً ثانياً\" لسوريا, بأهميتها ونفوها وارتباطها الروحي بمليشيات \"حزب الله\", على نحو لا قبل للقيادة الحاكمة في سوريا به. ولكن الذي حدث إثر دخول القوات السورية إلى الأراضي اللبنانية, وإمساك استخباراتها بتلابيب الحياة في لبنان, هو تراجع الدور الإيراني, إلى ما وراء الكواليس تقريباً. واستطاعت سوريا خلال عقد الثمانينيات وإبان الحرب الأهلية اللبنانية, بسط نفوذها الكامل على لبنان, إثر توسطها في تسوية النزاع القائم حينها, بين حركة \"أمل\" و\"حزب الله\", علاوة على تسويتها للنزاعات الجارية في مخيمات الفلسطينيين وقتئذ. وعندها بعدت الشقة بين طهران, ومليشيا \"حزب الله\" التي أنشأتها ذات يوم. \r\n ولكن الأيام دارت دورتها لتفاجأ سوريا بأن عليها مغادرة الأراضي اللبنانية, قبل عام تقريباً. وساعتها لاحت لإيران فرصة ذهبية عظيمة, للمضي قدماً في استئناف دورها السابق في لبنان, عبر علاقاتها التاريخية الوطيدة هناك, مصحوبة بالأمل في بناء علاقات جديدة أيضاً. هذا ويقر المسؤولون والساسة والزعماء الدينيون اللبنانيون, بسخاء طهران إزاء بلادهم, من حيث دعوتهم المتكررة للمؤتمرات التي تعقد هناك, ومن ناحية المساعدات والمنح المقدمة للبنانيين. \r\n ولكن يؤكد بعض المسؤولين اللبنانيين أن طهران ظلت حريصة دائماً على ألا تبدو وكأنها تمسك لبنان بقبضة من حديد, مخافة أن تثير غضب وحفيظة المسلمين السنة والمسيحيين والدروز عليها. ولعل هذا ما دعا بعض اللبنانيين لتفضيل النفوذ الإيراني على نظيره السوري, وذلك لأسباب تتعلق بالجغرافيا من ناحية, لكون إيران تبعد قليلاً عن بلادهم مقارنة بالجارة دمشق, ولاعتقادهم من ناحية أخرى, بأن النفوذ الإيراني سيكون أخف وطأة عليهم, لكون الإيرانيين -على عكس السوريين- يسعون للفوز بولاء اللبنانيين وليس فرض ذلك الولاء عليهم فرضاً, كما فعل بهم السوريون. \r\n من جانبه قال رضوان السيد, مستشار رئيس الوزراء وأستاذ العلوم الإسلامية بجامعة لبنان, إن للإيرانيين نفوذا واسعاً في لبنان, لا يقتصر على \"حزب الله\" وحده, وإنما يشمل الحياة اللبنانية كلها. كما أنهم أقوياء –ليس كما هو حال سوريا- فضلاً عن قدرتهم على تشكيل وجودهم بأشكال شتى ومتعددة, تشمل المساعدات الكبيرة التي يقدمونها لمختلف الجمعيات والمنظمات السنية والشيعية والمسيحية, سواء. \r\n لكن وعلى رغم ذلك كله, تبقى وحدة لبنان رهينة التفاهم وتحسن العلاقات بين واشنطنوطهران. ويعني ذلك انعكاس كل ما يجري بين هاتين الدولتين, على الأراضي اللبنانية. \r\n \r\n مايكل سلاكمان \r\n \r\n مراسل صحيفة \"نيويورك تايمز\" في بيروت \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"نيويورك تايمز\"