ويخطر رأي توين على البال مجدداً في الأسابيع الأخيرة خلال حرب أوسيتيا الجنوبية بين روسيا وجورجيا. استخدم بوش ورايس وأصحاب المقامات الآخرون قدسية الولاياتالمتحدة، محذرين من استبعاد روسيا من المؤسسات الدولية "لأنها اتخذت إجراءات في جورجيا لا تتناسب مع مبادئ الأممالمتحدة"، ساكاشفيلي أعاد ألفي جندي من العراق للدفاع عن بلاده، وكانوا ثالث أكبر قوة عسكرية أجنبية بعد القوات الأميركية والبريطانية! ثم رددوا القول إنه يجب احترام سيادة الأمم كافة ووحدة أراضيها، "كل الأمم" باستثناء تلك التي تختار الولاياتالمتحدة أن تهاجمها؛ كالعراق وصربيا وربما إيران، إضافة إلى قائمة طويلة ومعروفة تحتوي على عدد آخر من البلدان! وانضم الشريك الأصغر إليهم أيضاً، فاتهم وزير الخارجية البريطاني ميليباند، روسيا باستخدام "أشكال الدبلوماسية المعتمدة في القرن التاسع عشر" عبر اجتياح دولة ذات سيادة، وهو أمر ترفضه بريطانيا اليوم! وأضاف ميليباند: "لا تمكن إدارة العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين بهذه الطريقة"، مكرّراً ما قاله رئيس المقررين بأن اجتياح "دولة مجاورة ذات سيادة... أمر غير مقبول". وكتب سيرج حليمي في صحيفة "لو موند ديبلوماتيك" إن التفاعل بين السخرية والأحداث الواقعية يصبح أكثر وضوحاً، حيث أعاد الرئيس ساكاشفيلي الموالي لأميركا، ألفي جندي بعد أن أرسلهم لاجتياح العراق، بغية الدفاع عن حدود بلاده، وكانوا ثالث أكبر قوة عسكرية أجنبية في العراق بعد القوات الأميركية والبريطانية! وانضم بعض المحللين البارزين إلى الجوقة. فرحّب فريد زكريا بملاحظة بوش القائلة بأن تصرّف روسيا غير مقبول اليوم بخلاف القرن التاسع عشر، لذلك يجب أن نخترع إستراتيجية لتصبح روسيا "على انسجام مع العالم المتحضر" حيث التدخل غير وارد! وأصدر سبعة أعضاء في مجموعة الثماني الصناعية الكبرى بياناً "دانوا فيه تصرف البلد العضو في مجموعة البلدان الصناعية الثمانية"، أي روسيا التي يجب أن تدرك أن الالتزام الإنجلو -أميركي يقضي بعدم التدخل. كما عقد الاتحاد الأوروبي اجتماعاً طارئاً ونادراً من نوعه لإدانة جريمة روسيا، وهو أول اجتماع له منذ اجتياح العراق. ردود الفعل هذه تذكرنا بملاحظات أورويل حول "عدم مبالاة القومي بالواقع"، فهو "لا يستنكر الأعمال الوحشية التي ارتكبها فحسب، بل هو لا يعلم بها". لا نزاع في التاريخ الأساسي، فقد قام ستالين بضم أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا (مع مرافئ على البحر الأسود) إلى بلده الأم جورجيا. (يحث الزعماء الغربيون اليوم على احترام إرشادات ستالين). وحظيت المحافظتان باستقلال جزئي إلى أن انهار الاتحاد السوفييتي. وفي عام 1990، ألغى رئيس جورجيا، القومي المتطرف غامساخورديا، المناطق المستقلة واجتاح أوسيتيا الجنوبية. وأودت الحرب القاسية حينئذ بحياة ألف شخص وخلّفت عشرات آلاف اللاجئين. وأشرفت قوة روسية صغيرة على هدنة طويلة وهشة، خُرقت في 7 أغسطس المنصرم عندما أمر الرئيس الجورجي ساكاشفيلي قواته باجتياح الإقليم. ووفقاً لشهادات نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز"، فقد بدأ الجيش الجورجي بالدخول إلى الأجزاء المدنية في مدينة تسخينفالي وإلى قاعدة حفظ سلام الروسية هناك، تحت وابل من الصواريخ ونيران المدافع". ودفع جواب روسيا المتوقع بالقوات الجورجية خارج أوسيتيا الجنوبية، حيث راحت روسيا تحتل أجزاء من جورجيا قبل أن تنسحب جزئياً من جوار أوسيتيا الجنوبية. وقع عدد من الجرحى وحصلت أعمال وحشية كثيرة. وكما هو متوقع، عانى البريء الأمرّين. وهناك مسألتان مهمتان تشكلان خلفية مأساة القوقاز الحالية؛ الأولى هي السيطرة على الغاز الطبيعي وعلى أنابيب النفط، بدءاً من أذربيجان وصولاً إلى الغرب. فقد اختار كلينتون جورجيا ليتجنب روسياوإيران اللتين عززتا قوتهما العسكرية لهذه الغاية. وقال زبيغنيو بريجينسكي إن جورجيا تُعتبر "مصدر قوة مهماً وإستراتيجياً بالنسبة إلينا". لكن المحللين يصبحون أقل تحفظاً في تفسير الدوافع الأميركية الحقيقية في المنطقة. لذلك يذكّر المحررون في صحيفة "واشنطن بوست" باراك أوباما بوجوب النظر إلى أفغانستان على أنها "جبهة مركزية" بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة، لكنهم يشيرون إلى أن العراق "يقع في وسط الشرق الأوسط الجغرافي السياسي ويحتوي على أكبر احتياط من النفط في العالم"، وأن "أهمية أفغانستان الإستراتيجية تضعف أمام أهمية العراق". يشكل ذلك اعترافاً ولو متأخراً باجتياح الولاياتالمتحدة للعراق! أما المسألة المهمة الثانية في القوقاز فهي توسع حلف شمال الأطلسي إلى الشرق. عندما انهار الاتحاد السوفيتي، قام غورباتشوف بتنازل مفاجئ، في ضوء الوقائع التاريخية والإستراتيجية القائمة حينئذ، فسمح لألمانيا موحّدة بالانضمام إلى حلف عسكري عدائي. وبحسب جاك مالتوك، السفير الأميركي في روسيا خلال المرحلة المهمة بين عامي 1987 و1991، فقد "وافق غورباتشوف على التنازل على أساس ضمانات غربية بعدم توسيع الناتو سلطته إلى الشرق، "قيد أنملة" كما قال وزير الخارجية جيمس بيكر. ورأى المحلل الإستراتيجي والمخطط السابق في حلف شمال الأطلسي مايكيل ماك واير خُلف كلينوتن سريعاً لهذا الالتزام وغضّ النظر عن جهود غورباتشوف الهادفة إلى إنهاء الحرب الباردة بالتعاون بين الشركاء، فرفض حلف شمال الأطلسي اقتراحاً روسياً يقضي بإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية تمتد من القطب الشمالي إلى البحر الأسود، لأنها كانت "ستتعارض مع خطط توسيع الحلف". وتخلى غورباتشوف عن آماله لصالح النصر الأميركي. وزادت خطوات كلينتون حدّة من خلال موقف وتصرفات بوش العدائية. وكتب مالتوك أن روسيا كانت ستسمح بدمج الأقمار الاصطناعية الروسية القديمة بحلف الأطلسي لو لم "تقم الولاياتالمتحدة بقصف صربيا وباستكمال توسعها. لكن في التحليل النهائي، تخطت الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية في بولندا ودخول جورجيا وأوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، الخطوط الحمراء. ثم طفح الكيل مع الإصرار على إعلان استقلال كوسوفو ومنحها الاعتراف. تعلّم بوتين أن تقديم التنازلات للأميركيين لا يقابل بالمثل، حيث اعتادت الولاياتالمتحدة على تعزيز سيطرتها في العالم. وعندما حظي بوتين بالقوة ليقاوم، قام بذلك في جورجيا. وثمة الكثير ليقال حول "حرب باردة جديدة" أثارها تصرف روسيا العنيف في جورجيا. ولا يسع المرء إلا أن يحذر من الفرق البحرية الجديدة الأميركية في البحر الأسود، ومن إشارات أخرى تدل على إمكانية حدوث مواجهة، علماً بأنه من الصعب السماح بحصول أمر مماثل في الخليج ونيو ميكسيكو. من الممكن أن تصبح الجهود التي يتم التفكير فيها حالياً، لتوسيع حلف الأطلسي إلى أوكرانيا، خطرة للغاية. وتعتبر زيارات نائب الرئيس الأميركي الأخيرة إلى جورجيا وأوكرانيا استفزازية بشكل كبير. لكن من غير المرجح اندلاع حرب باردة جديدة. وبغية تقييم المشهد، يجب أن نفهم بوضوح الحرب الباردة القديمة. وإذا ما وضعنا العبارات المنمقة جانباً، كانت الحرب الباردة عملياً عبارة عن اتفاق ضمني حيث كان كلّ من المتنافسين، حرّاً في اللجوء إلى العنف والدمار للسيطرة على ميادينه: بالنسبة لروسيا، على جوارها الشرقي، وبالنسبة إلى القوة العظمى العالمية على معظم أنحاء العالم. وقد لا يقوى المجتمع الإنساني على تحمل عودة شيء مثيل لذلك أو حتى على الصمود في وجهه. إن البديل المعقول هو نظرة غورباتشوف التي رفضها كلينتون وقلّل بوش من أهميتها. وقدم وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق وعالم التاريخ شلومو بن عامي نصيحة سليمة تتناسب مع هذه الخطوط، فكتب في الصحف اللبنانية: "يجب أن تبحث روسيا عن شراكة إستراتيجية وأصلية مع الولاياتالمتحدة، ويجب أن تفهم الأخيرة أنه عندما يتم استثناء روسيا والاستخفاف بها فمن الممكن أن تصبح لاعباً عالمياً أساسياً. تحتاج روسيا التي تجاهلتها الولاياتالمتحدة وأهانتها منذ الحرب الباردة، إلى الدخول في النظام العالمي الجديد الذي يحترم مصالحها كقوة بارزة وليس كإستراتيجية معادية للغرب". بقلم نعوم شومسكي توزيع خدمة "نيويورك تايمز"