لم تنفجر قنبلة الثورة التي يشهدها العراق، اليوم، في وجه رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، وحكومته، فحسب، بل إنها انفجرت، أيضاً، في وجه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، والولاياتالمتحدة بشكل عام. مردّ ذلك إلى أن الولاياتالمتحدة التي انسحبت من العراق أواخر عام 2011، من دون اتفاقية أمنية، أو عسكرية، مع حكومة المالكي، جرّاء رفض الأخير، حينها، منح حصانة للقوات الأميركية أمام المحاكم العراقية، وجدت نفسها قد خسرت العراق كلياً لصالح إيران، الخصم الأميركي الأعند، افتراضاً، في المنطقة. والآن، يجد أوباما نفسه في واشنطن في وضع لا يقل سوءاً عن المالكي في بغداد، وإن اختلفت أنساق الأزمة لديهما. فإذا كان المالكي يقاتل، اليوم، في سبيل البقاء زعيماً للعراق، أمام تقدم تحالف العشائر السنية والفصائل الأخرى المستاءة من سياساته الطائفية البغيضة وارتباطه المهين بإيران، فإن أوباما يقاتل في سبيل تركة رئاسية وتاريخية متخففة من الإخفاقات السياسية، داخلياً وخارجياً. ولكن، أنّى له هذا. فالإخفاقات تلاحق الرجل في الملفات الداخلية، كقضايا الاقتصاد وإصلاح قوانين الهجرة والضريبة، كما تلاحقه الإخفاقات، أيضاً، في ملفات خارجية، كأوكرانيا وبحر الصين الجنوبي وسورية، غير أن العراق يبقى له نسق فريد مع أوباما. لماذا؟ ببساطة، ذلك أن حرب العراق والتورط الأميركي في وحله، سنوات سلفه جورج بوش، كانت الرافعة الأقوى التي حملت أوباما إلى الرئاسة، لكنه لم يعد بالخروج من العراق فحسب، بقدر ما أنه وعد بخروج "آمن ومسؤول" منه، ما لم يتحقق مع عجز إدارته، كما عجزت عن ذلك إدارة بوش من قبل، في إبقاء قوة عسكرية أميركية صغيرة فيه، تشرف على تدريب القوات العراقية وتوجيهها، والإشراف على "الحرب على الإرهاب". وكان الكل يعرف حينها أن المالكي اختار التبعية لإيران على التبعية لأميركا. مع ذلك، لا إدارة بوش ولا إدارة أوباما بعده استطاعتا أن تغيرا من هذه الحقيقة. مشكلة أوباما أنه متهم أميركياً، ومن كثيرين حلفاءَ للولايات المتحدة، أنه أضعف الزعامة الأميركية العالمية، جرّاء سياساته المترددة والمرتبكة على الصعيد الدولي. فخطوطه الحمراء في سورية طواها النسيان، وسياسة "تصفير المشكلات" مع روسيا انهارت في أوكرانيا، والانعطافة نحو "آسيا المحيط الهادئ" ينخرها التمدد الصيني هناك، في حين وصلت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية إلى انهيار تام.. إلخ. وهنا، يقول ناقدوه الأميركيون إن أوباما أسقط الهيبة الأميركية، ولم يعد خصوم الولاياتالمتحدة يخشون سطوتها وجبروتها، ولم يعد أحد يقتنع بجدية تهديداته. ناقدو أوباما الأميركيون أنفسهم طالبوه، غير مرة، بالضغط على المالكي، لإدماج السنة في الحياة السياسية العراقية، والابتعاد عن السياسات الطائفية البغيضة لحكومته. وعبثاً حاولت إدارة أوباما مع المالكي، لكن الأخير كان دوماً يقلب ظهر المجن لواشنطن، حتى وهو يطلب دعمها العسكري، ويعقد معها صفقات التسلح. الآن، حانت لحظة الحقيقة بالنسبة للرجلين، فالمالكي الذي تعامل باستعلاء مع واشنطن أواخر عام 2011، يعود لها، اليوم، ذليلاً يستجدي دعمها العسكري، ويفتح لها مجال بلاده الجوي، علَّها تقوم بضربات جوية ضد خصومه من السنة المتقدمين نحو بغداد. أما أوباما، فإنه يجد نفسه، مرة أخرى، أمام المزايدات السياسية، أميركياً، على قدراته القيادية، وحكمة مقارباته السياسية. فالجيش العراقي الذي دربه الأميركيون انهار، كما لو أنه نمر من ورق أمام مجموعات غير مسلحة تسليحاً جيداً، كما أنها غير منظمة، ولا مدربة تدريباً عالياً. المفارقة هنا، أن "مبدأ أوباما" في السياسة الخارجية القائل إن الولاياتالمتحدة لن تلجأ إلى القوة العسكرية بشكل مباشر، اللهم إلا إذا تعرضت مصالحها وأمنها المباشرين للخطر، افترض أيضاً، أن الولاياتالمتحدة ستعين حلفاءها، استخباراتياً وتمويلياً وتدريبياً، إن احتاجت إلى الدعم في محاربة "الإرهاب". ولكن، ماذا تفعل عندما ينهار حليفك، كما انهار جيش المالكي؟ هذه معضلة حقيقية لأوباما الآن ولمبدئه، على الرغم من أنه أعاد التأكيد، مرة أخرى، أنه لن يرسل قوات عسكرية إلى العراق، وأن النقاش ينحصر في دعم جوي، لم يحسم أمره بعد، وتمويل وتدريب وتسليح لقوات المالكي. ويا للمفارقة، قد يكون ذلك بالتعاون مع إيران التي أعلن رئيسها استعداده لمعاونة الأميركيين في العراق. إذن، أوباما في ورطة، كما المالكي. يريد أن يكون من ضمن تركته الرئاسية أنه هو من أنهى أكثر من عقد من الحروب المجنونة التي بدأتها إدارة بوش، وأنهكت الاقتصاد الأميركي، وهوت بصورتها وشعبيتها عالمياً، غير أنه، أيضاً، لا يريد أن يكون من ضمن تركته أنه من جعل العالم مكاناً أكثر خطراً، بسبب مقارباته الحالمة، كما يتهمه خصومه. فالرجل الذي زعم يوماً أنه سحق تنظيم القاعدة، يرى أمام ناظريه، وتحت قيادته، بعثاً لتنظيمات أشد خطراً وأكثر انتشاراً من القاعدة في إفريقيا واليمن والشرق الأوسط. وأمام هذا، يبدو أن أوباما، المؤكد، مرة تلو أخرى، أنه لن يقبل أبداً بتورط عسكري أميركي جديد في العراق، أو غيره، أقرب إلى ضرورة إظهار نوع من العزيمة، في تعامله مع المالكي وحكومته. فالإشارات القادمة من واشنطن، الآن، تظهر، بجلاء، أنها ضاقت ذرعاً بسياسات المالكي، الطائفية الإقصائية، والتي دفعت السنّة إلى الخروج على حكومته، وحمل السلاح في وجهها. ولا يستبعد هنا أن تعمل الولاياتالمتحدة بالتنسيق مع إيران على استبدال الرجل، أو، على الأقل، إرغامه على سياسات أكثر انفتاحاً وتشاركية مع المكونين، السنّي والكرديّ، إن بقي العراق، طبعاً، كما نعرفه اليوم، بمعنى تفتته وانشطاره. فتأخر الموافقة الأميركية على القيام بضربات جوية ضد من تصفهم بمقاتلي "الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام" معناه الوحيد أن الإدارة الأميركية تريد تغيير سلوك المالكي على الأرض، أو التخلص منه كلياً، في أفق تخفيف الضغط على أوباما أميركياً أيضاً. فالرجلان مأزومان اليوم، ولكن، إن كان أمل المالكي بالتخلص من أزمته أميركياً، فإن أمل أوباما بالتخفف من أزمته قد يكون ثمنه رأس المالكي، أو تغيير طبيعته على الأقل. رابط المقال: http://goo.gl/SPIdIF