للخبير الاستراتيجي مايكل كريبون كتاب قيم أنصح بالرجوع إليه سماه: «الأمن أولاً... قبل الندم! مفارقات التعايش مع القنبلة». فالأقمار الصناعية، على سبيل المثال، تقدم خدمات حيوية لا غنى عنها حين تسهم في إرشاد عربات الإسعاف وسيارات الشرطة إلى وجهاتها بأسرع وقت ممكن بفضل النظم العالمية لتحديد المواقع. كما يتم ربط الأقمار الصناعية أيضاً بالقوات النووية التابعة للقوى الكبرى بغية توفير منظومة إنذار مبكر عن أي هجمات وشيكة، وتقصّي المعلومات الضرورية والحصول عليها، وتحقيق التواصل بين حلقات سلسلة القيادة، صعوداً وهبوطاً. ولكن في حال تعرض هذه الأقمار للهجوم، أو تحول الفضاء إلى «صالة للتدريب» على الرماية، فإن هناك دولاً قد تجد نفسها مهددة إلى الحد الذي يجعلها تفكر في استخدام أسلحتها النووية. وحتى إن هي لم تفعل ذلك، فإن حروب الفضاء يمكنها أن تولد حطاماً مهلكاً من شأنه تدمير الأقمار الصناعية بصورة عشوائية، وإن قطعاً من هذا الحطام، ربما لا يزيد حجم كل منها على حجم كرة الرخام، يمكن أن تنطلق في مدارات أرضية منخفضة بسرعة تفوق بعشرة أضعاف سرعة رصاصة البندقية، ويمكن بوضعها هذا، أن تتحول إلى كارثة مدمرة يمتد أمدها عقوداً عدة. لقد أمكن حتى الآن، التحكم في المخاطر النووية، المعروفة منها والجديدة. وفي العصر النووي الأول، سادت رؤيتان رئيسيتان متناقضتان: الأولى مثلث ب«المفارقة الكبرى» التي أطلقها وينستون تشرشل وهي القائلة إن: «الأمن سيكون الطفل القوي للإرهاب، والبقاء هو الأخ التوأم للإبادة». أما الثانية فهي «الحقيقة المتناقضة» التي عرضها هنري كسنجر، عام 1960، بقوله إن: «قدراً من الأمن يكمن في الأرقام». وقد وقف هذان التناقضان التوأمان، وراء توجه القوى العظمى لبناء ترسانات هائلة، كما أن توافر مزيد من «الأمن» النووي، زاد هذين التناقضين حدة، بطرائق عدة، فطوال عقود، كانت هناك آلاف الأسلحة النووية جاهزة للإطلاق، لكن أياً منها لم يستخدم في ساحة حرب فعلية. وإذا كان العامل الإنساني قد استثار «قانون مورفي»، فقد أسهم أيضاً، في الحيلولة دون تفجر كثير من الأزمات الحادة بشكل «سحب نووية»، وإذا ما عاد الماضي، ليصبح فاتحة تمهد لأحداث لاحقة، فلنا أن نتوقع أزمات حادة كبرى، ترتبط بالإرهاب النووي، ولاسيما حال تخلف أداء البرامج التعاونية للحد من التهديدات. لذا نفهم قلق المنظومة الدولية ودول الخليج بالخصوص فيما يتعلق بالسلاح النووي الإيراني. فالتاريخ النووي، حافل بالمفارقات، والمستقبل قد يخبئ المزيد سواء ما هو مهلك منها أو ما هو غير ذلك. ومهما يكن من أمر، فإن الممر الآمن خلال العصر النووي الأول، قد تطلب الثبات واستيعاب الدروس من الأخطاء المرتكبة، والحكمة قبل كل شيء. ولا ريب في أن إيجاد ممر آمن، خلال العصر النووي الثاني، سيقتضي الاعتماد بشكل أكبر، على كل هذه العوامل، وإلا فإن البشرية ستعاني ويلات أناس ضالين ومضلين. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن المحددات الحالية لنوعية الحروب بدأت تتغير جذرياً عما ألفناه وعما نظّر له كبار الاستراتيجيين التقليديين أو الكلاسيكيين كالصيني القديم «صن تزو» أو الجنرال البروسي كارل فون كلاوزفيتش الذي يشبه الحرب بمبارزة على أوسع نطاق، ويقارنها بصراع بين اثنين من المتبارزين ليستنتج من خلال ذلك أن «الحرب عمل من أعمال العنف تستهدف إكراه الخصم وفرض إرادة معينة» فالعنف هو الوسيلة، أما الغاية فهي فرض الإرادة على الخصم. بمعنى أن الهدف من أي عمل عسكري هو هزيمة العدو أو نزع سلاحه. ولذا نراه يسخر من النظرية القائلة بالحرب دون إهراق الدماء فيقول: «لا تحدثونا عن قادة ينتصرون دون سفك الدماء»... أما اليوم فمن شأن الهجمات الإلكترونية أن تتعدى ويلات الحرب الكلاسيكية، ويمكنها أن تتسبب في وقوع ضحايا وخسائر جسيمة جسدت في الجزء الرابع من سلسلة أفلام داي هارد Die Hard 4 أو كما عُرف في شمال أميركا Live free or Die Hard حيث نرى الشرطي جون ماكلين (بروس ويليس) في حرب ضروس مع نوع جديد من الهجوم الإلكتروني الذي يبدأ بتعطيل إشارات المرور مما يسبب زحمة خانقة قبل مهاجمة شبكة الأنظمة التي تتحكم في البنى التحتية للولايات المتحدة الأميركية، ليضع الهجوم البلاد ومن ثم العالم كله في حالة شلل تام. فبعد إشارات المرور يقوم الإرهابيون بتعطيل شبكة البنوك فتتعطل معها أجهزة الصرف الآلي، ثم يهاجمون شبكة السوق المالي ليصاب الاقتصاد الأميركي بالشلل التام، ثم يبادر الإرهابيون باستعمال عقول الحواسيب وبسهولة تامة -مصحوبة ببرودة دم- لتوجيه ضرباتهم للبنى التحتية لتكنولوجيا الاتصالات في محطات المياه والكهرباء وشبكات خدمات الطوارئ والمستشفيات وغيرها... وهذا الفيلم المتميز يلخص مسألة حرب الإنترنت التي تثير العديد من التساؤلات العلمية من قبيل مفهوم عسكرة الفضاء الإلكتروني إلى حد أن هناك من يطرح فرضية صياغة ميثاق لحرب الإنترنت شبيه بميثاق جنيف... ثم كيف سيتم التعامل مع الإرهابيين أو المهاجمين من القراصنة الإلكترونيين العابرين للقارات لأنه في كثير من الحالات يصعب معرفة الجهة المسؤولة عن الهجمات الإلكترونية؟ كما أن تبني استراتيجيات عسكرية جديدة لصيقة بالحرب الإلكترونية يتطلب تعديلات كثيرة في القوانين الدولية ومصطلحات الحروب في إطار تعريف الهجمات المسلحة، مثل الهجمات في الفضاء الافتراضي والأسلحة الإلكترونية، إلى غير ذلك من الإشكاليات المتزايدة... إنها حروب جديدة لن تستخدم فيها ولو رصاصة واحدة ولا قذيفة أو صاروخ مضاد ولكن خسائرها فادحة وتداعياتها لا يمكن أن تستقصى... إنها حرب الإنترنت أو قراصنة الحاسوب، أو الهجمات الإلكترونية، وللحديث بقية. رابط المقال: عن تغيير مفهوم الحرب