حلت المفاجأة غير المنتظرة، ففي غضون أسابيع قليلة تمكن بوتين من إنجاح هجومه واجتاح شبه جزيرة القرم ليفرض على المجتمع الدولي أمراً واقعاً، بل أكثر من ذلك وفي جلسة أمام البرلمان، حظي فيها بتصفيق حار من المشرعين، وقع الرئيس الروسي المنتشي بنصره على اتفاق يقضي بضم القرم إلى الاتحاد الروسي. وقد مثلت الأحداث والتطورات الأخيرة ضربة قوية للأمن الأوروبي والعالمي على حد سواء، وهو الحدث الأبرز منذ تقسيم أوروبا إلى معسكرين غربي وشرقي، لكن تعرض الأمن للانهيار يبقى في الحقيقة مرهوناً بردود الفعل الدولية، بحيث يبدو أن الحكمة القائلة «ما لا يقتلك يقويك» تنطبق تماماً على الوضع الحالي. فرغم المحنة التي تمر بها أوكرانيا ومساعي بوتين لانتزاع جزء من أراضيها يظل الأوكرانيون متشبثين بحقهم ورافضين التخلي عن أرضهم، ولا يعني أن إصرار روسيا على الاحتفاظ بالقرم وادعاء انضمامها إليها أن الأمر بات مسلماً به، ولا أدل على ذلك من رفض المجتمع الدولي الاعتراف بالخطط الروسية، فالقانون والتاريخ يقفان مع أوكرانيا، ولن تتزحزح البلاد عن مواقفها العادلة وقضيتها المنصفة، كما لن تُرهب البلادَ الاستفزازاتُ التي تقوم بها القوات الروسية على الحدود الشرقيةلأوكرانيا، أو التلويح باجتياح المناطق الشرقية، فنحن سنواجه موسكو في أروقة المحاكم، وسنستغل كل محفل عالمي للتأكيد على أن ما قامت به روسيا لا ينسجم مع القانون الدولي ولا الأسلوب الذي يمكن التعامل به مع الدول المجاورة، وفي هذا السياق تحظى أوكرانيا بتعاطف واسع وتضامن دولي واضح. فالعالم كله يقف إلى جانب أوكرانيا خلال هذه الأيام، وإن كان الأمر يتجاوز الإجماع الدولي، فما يجري هو مرتبط أساساً بالصمود في وجه الاعتداء وعدم رفع الراية البيضاء، فما تحاول فعله روسيا في هذه المرحلة هو دق إسفين بين أعضاء المجتمع الدولي وزرع الخلافات بين دوله، غير أن ما طرحه بوتين أمام الكرملين المصفق يمكن تلخيصه في فكرة واحدة: هي رسم حدود جديدة لأوروبا بدعوى صيانة «المصالح المشروعة» التي يتم توظيفها لتبرير سنوات من الإلحاق والاحتلال، ولا يبدو أن العالم سيقبل هذه القاعدة، لا سيما في ظل التجارب التاريخية المؤلفة في أوروبا التي كانت وراء إشعال الحروب، والأهم من كل ذلك أن العالم اكتشف روسيا بوجهها الحقيقي لينهي بذلك مرحلة من الكليشيهات الدبلوماسية في التعامل مع موسكو التي أثبت فشلها، فروسيا اليوم هي تهديد وخطر داهم، فيما تمثل أوكرانيا خط المواجهة والحد الفاصل بين التمدد واحترام القانون الدولي، وليس من خيار أمام أوكرانيا إلا الانحياز إلى أوروبا ديمقراطية وحرة، وإذا كانت المعركة اليوم تدور حول الديمقراطية وحقوق الإنسان فإن أوكرانيا هي ساحتها، ومع أن العالم في الأسابيع الأخيرة واجه أزمة خطيرة، إلا أنه يمكن تحويلها إلى فرص، فحالياً هناك وعي بدأ في التشكل لدى أوروبا الشرقية ساهمت أوكرانيا في إيقاظه بعدما تخلصت من أخطاء الماضي، بحيث لم تعد الآن بدائلنا متوافرة في روسيا، بل تكمن في بناء دولة فعالة بميول أوروبية. وإذا ما كُتب للتجربة الأوكرانية النجاح في ثوبها الأوروبي الجديد فإنها ستمثل بديلا ديمقراطياً لجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق التي ما زلت تراقب باهتمام الوضع الأوكراني، وفيما ستمثل أوكرانيا لحظة تغيير ومراجعة حقيقية للسياسات الأوروبية فإنها ستكون بالنسبة لأميركا فرصة للدخول في معركة طويلة مع روسيا لا شك أنها ستخرج منها منتصرة، هذا في وقت سينام المجتمع الدولي قرير العين مدركاً أن أمنه لا يعتمد على مزاج رجل الكرملين القوي. نوع المقال: روسيا