يقدم مجمع الحمراء في غرناطة سلسلة منفصلة من المباهج التي تخاطب الحواس جميعها، تماماً مثل القاعات المنفصلة في "تيت غاليري" وقصر اللوفر، وهو ما يؤكد أن الحساسية الإنسانية لها قدرة محدودة على التلقي والاستيعاب. يجد المرء نفسه في زيارته الأولى لمجمع الحمراء، وسط نصف دزينة على الأقل من مجموعات السياح، يتنافس مرشدون على رأس كل مجموعة منها في مخاطبة أعضائها بلغات تعكس تعدد لغات برج بابل. وهذا الحضور المليء بالضجيج لهذا الحشد الكبير، الأكثر حرصا على تصوير أصدقائهم قبالة خلفية من القصر العربي أكثر من حرصهم على فهمه والاستمتاع به، يحول دون حصول المرء على ما يتجاوز انطباعا بالغ العمومية عن المجمع. والمناخ الشامل الذي يحيط بالمجمع قوامه النور والهواء والرقة والجلال والعزلة، والصمت الذي يعد متطلباً رئيسياً لاستيعاب روح شديدة الخصوصية. وإذا أراد المرء معايشة هذا المناخ بأي درجة من العمق، فإن عليه أن يقوم بزيارة ثانية للمجمع. وهذه المرة فإن الطريقة الوحيدة للوصول إلى هذا المناخ، هي أن يشق طريقه إلى الأمام ويسبق الجولات التي يقودها المرشدون لدى فتح البوابات مباشرة. وهكذا يتاح له أن يمضي دقائق قلائل في سلام وهدوء، في تلك الأجزاء من المجمع التي استقطبت تعاطفاً خاصاً منه خلال زيارته الأولى، ذلك أنه لا يمكن للمرء أن يحقق أمله الذي أعرب عنه واشنطن إيرفنغ بأن يقضي ليلة في القصر. ومن المؤكد أن الأجزاء التي تستقطب المرء، ستشمل فناء الرياحين وقاعة السفراء وقاعة الأسود وقاعة الشقيقتين. يمكن رؤية الرقة المستمدة من وجود الماء، الذي يعد أحد العناصر الأساسية في مجمع الحمراء بأسره، في البساطة الشاملة لفناء الرياحين، وهو فناء مستطيل يضم بركة صغيرة مركزية تحف بها شجيرات الرياحين ذات الخضرة القاتمة، الأمر الذي يعطيها، رغم صغرها النسبي، شعورا بالفراغ وانطلاق النسيم فيها. وإلى الشمال من هذا الفناء تمتد قاعة السفراء، التي يتم الوصول إليها عبر ما يعرف ب"سالا فيلا باركا" (وهو اسم مستمد غالبا من كلمة "البَركة" العربية، وليس كما يفضل بعض المعلقين من الكلمة "بِركة" بكسر الباء، أو كما يشير إيرفنغ من المكلة الإسبانية "باركا" التي تعني زورقاً أو سفينة). وقاعة السفراء لها جدران مزخرفة بالأحجار المزججة والجص على نحو بديع، بينما يتألف السقف مما لا يقل عن 8017 قطعة من الخشب ذي الألوان المختلفة. ومن القاعة يمكن للمرء أن يختار بين المشاهد البديعة للوادي في الأسفل، ولمدينة غرناطة التي تمتد إلى البعيد، ولمجرى النهر الذي يحمي المدينة وهو نهر دارو، وعندما تطلع شارلز الخامس للمرة الأولى من قاعة السفراء إلى أسفل، نقل عنه قوله: "إنني لأرثي للحاكم العربي الذي فقد هذا كله". ربما كان الجزء الأكثر شهرة من المجمع بأسره هو فناء الأسود، ويقع في قلب القصر، وهنا نجد أنفسنا مجددا حيال الماء، وهذه المرة نراه متدفقاً ويشكل الجزء المحوري منظوراً إليه من خلال العقود المحمولة على أعمدة رشيقة، والنافورة تستند إلى ظهور اثني عشر أسداً منحوتاً من الحجر، وهذه الأسود اجتذبت تعليقات عدد كبير من مشاهير الزوار. لقد وصفها إيرفنغ بأنها غير جديرة بالشهرة التي نالتها، وقال عنها: "إنها تتألف من نحت بائس، وربما كانت من عمل أسير مسيحي"، بينما يذكر ثيوفيل غوته أنه سيكون من الصعب العثور على أي شيء أقل شبها بالأسود من أعمال "الخيال الإفريقي" هذه (لم يكن قد بدأ بعد عصر مودوبلياني وبيكاسو الذي تأثر فيه كثيرون بالنحت الإفريقي). وفي قلب المجمع، ومع إثارة كل قاعة للاستجابة الخاصة بها في نفس المتلقي، وتداخل الماء المتألق والأعمدة والواجهات المزخرفة، تتوقف عينا الناظر عند الرشاقة الكلية للخط العربي. هذه الخطوط العربية تقدم لنا في بعض الأحيان قصائد كاملة، ولكنها في الغالب تقدم لنا آيات من الذكر الحكيم، أو صيغاً متكررة بلا انتهاء مثل "لا غالب إلا الله". ويقول أوليغ غرابار، مؤلف التفسير الأكثر نباهة لمجمع الحمراء، إن هذه النقوش عناصر تذكير دائم بالرؤية الإسلامية للذات الإلهية. وبهذا المعنى فإن مبنى الحمراء بأسره، يتخلله بعمق الإحساس الإسلامي الكلي بالحضور الإلهي المطلق. نوع المقال: عام