يظل الحديث متواصلاً عن غرناطة.. وتبدأ انطلاقتنا هنا من الإشارة إلى أن عام 1492 بالنسبة للملوك المسيحيين في إسبانيا، يعد عاما استعصى على النسيان لأسباب أخرى غير تلك التي سبق أن رأيناها. فمنذ عام 1479، كان كريستوفر كولومبوس وصانعو الخرائط الجنويين والرحالة عبر البحر، يحاولون إقناع ذوي النفوذ بتمويل رحلة يتم من خلالها التوصل إلى طريق مختصر نحو جزر الهند. وكان اللقاء الأول لكولومبوس مع فرديناند وإيزابيلا في بلاطهما في قرطبة عام 1486، وفي ذلك الوقت كان الملوك المسيحيون لايزالون منهمكين في مهمة انتزاع الأندلس من أيدي المسلمين، ولم يكونوا يفكرون في مشروعات كتلك التي كان كولومبوس يعرضها. ومع مرور الأعوام، أصاب الإحباط كولومبوس بشكل متزايد، وقرر بالفعل أن يسعى للحصول على المساعدة من ملك فرنسا، حتى وإن كان ذلك يبدو بعيد الاحتمال. وكان بالفعل في طريقه إلى السفر بحرا إلى هناك عندما تم استدعاؤه، حيث شهد بنفسه حصار غرناطة واستسلامها. كان الملك فرديناند لايزال متشككا في المشروع الذي يطلب منه كولومبوس تمويله، ولكن الملكة أليزابيث الشريكة المهيمنة في هذه الشراكة العجيبة، ذكرت أنها هي نفسها ستكون راعية هذا المشروع، وأنها على استعداد "لرهن جواهري لتغطية نفقاتها إذا لم تكف الأرصدة الموجودة في الخزينة". وهكذا، وبهذين الحدثين - استسلام غرناطة، واكتشاف العالم الجديد والثروات التي جلباها - أصبحت إسبانيا فجأة الإمبراطورية الأكثر قوة منذ عهد الرومان.. غير أن لحظة مجد الإمبراطورية الإسبانية كانت قصيرة، ولكن تلك قصة لم تلعب غرناطة التي تعنينا هنا دورا فيها. لا شك في أن مجمع الحمراء قد أفلت من الدمار على يد مقتحمي غرناطة وقت استسلامها، وهذا يرجع إلى قرار أبي عبد الله بتسليم المدينة دون ضربة واحدة على سبيل الدفاع عنها. ومن حسن الطالع حقا، أن المجمع لم يسقط ضحية لمشاعر العداء للمسلمين، التي انتشرت في وقت لاحق بتشجيع من الكنيسة الكاثوليكية وهيكلها التنظيمي. وهناك نموذج لهذه النزعة المتطرفة، يمكننا أن نراه في الطريقة التي قام بها الأسقف جيمينيز في إطار محاولة لاستئصال أي أثر للثقافة العربية من شبه الجزيرة الإيبيرية، بإشعال نيران هائلة في غرناطة أحرق فيها كل المخطوطات العربية التي استطاع أن يضع يده عليها، وهي نزعة وحشية لم يتردد البروفيسور نيكلسون في كتابه "التاريخ الأدبي للعرب"، في القول إنها جعلت "معلوماتنا عن الشؤون الأدبية أقل بكثير مما يمكن أن تكون عليه". نجا مجمع الحمراء كذلك بأعجوبة، من قرون من الإهمال الإسباني لكل ما هو عربي أو إسلامي. ويتبنى ريتشارد فورت، الذي كتب في القرن الماضي عن إسبانيا بصورة لماحة، رؤية انتقادية للغاية للعديد من الجوانب في ما يتعلق بالإسبان، ليس أقلها عدم اكتراثهم بماضيهم في ظل الحكم العربي. وهو يصف مجمع الحمراء بأنه "لؤلؤة غرناطة ومغناطيسها". وقد ظل هذا المجمع على امتداد قرون، عرضة لتأثيرات الإهمال، وقلة من أبناء المنطقة كانت تذهب إلى هناك، يقول ريتشارد فورت: "لم يفهم أحد منهم شيئا مما يراه فيه أو يبدي اهتماما نحوه، في حين كان هذا المجمع يثير اهتمام الغرباء". وهو يشير إلى أن كتابات واشنطن إيرفنغ الجذابة وإعجاب الزوار الأوروبيين، هما وحدهما اللذان أرغما السلطات على القيام بأي شيء على الإطلاق للحفاظ على مجمع الحمراء وترميمه، وهو يشير إلى أنه حتى في ذلك الحين، كانت دوافع السلطات أقرب إلى دوافع القراصنة منها إلى الاهتمام المفاجئ بمجمع الحمراء. ومما يثلج القلب أنه في عام 1870، أُعلن مجمع الحمراء أثرا قوميا، وبدا موقف إسبانيا اليوم من ماضيها العربي أكثر تحررا. ومجمع الحمراء الذي شيد على 35 فدانا، والذي يشكل جزءا من سفح جبل سيرا نيفادا، يقدم للناظر إليه من الخارج مشهدا صارما، حيث لا تعطي أبراجه ومعقل دفاعه مؤشرا إلى الكنوز المعمارية الرقيقة التي يضمها. والقصبة أو القلعة التي على أحد أبراجها رفعت أعلام فرديناند وإيزابيلا في اليوم الثاني من عام 1492، هي الجزء الأقدم من مجمع الحمراء، وكانت تستخدم كثكنة ومعقل عسكري، وربما أيضا كسجن، ويحدثنا واشنطن إيرفنغ بأنها كان يمكن أن تضم 40 ألف جندي. اليوم يحتمل أن يدخل السائح إلى المجمع من خلال باب الشرع، الذي يعد المدخل الرئيس من الجنوب، بعد أن يكون قد انتقل على امتداد الطريق المنحدر الذي يحيط به صفان من الأشجار الإنجليزية الشاهقة، وهي هدية من دوق ويلينغتون، بعد تكريمه على دوره في حرب شبه الجزيرة الإيبيرية. وقد نقشت على حجر رئيسي في عقد بوابة الشرع، يد مبسوطة تعد رمزا للأعمدة الخمسة التي بني عليها الإسلام. وعندما يشق المرء طريقه إلى مدخل مجمع الحمراء، فإنه يمر بالقصر المنتمي معماريا إلى عصر النهضة، الذي شيده تشارلز الخامس في إطار محاولته تقزيم المباني المجاورة له. وكما عبر ديزموند ستيوارت عن الأمر في كتابه عن الحمراء، فإن علاقة القصر بمجمع الحمراء تشبه علاقة فيل يحاول سحق غزال. ولدى دخول سلسلة من القاعات التي تشكل القصر الملكي، يقدم للزائر بطاقة هي بمثابة خريطة تقريبية للمجمع. ويوجد في أرجاء القصر عدد من المشرفين الذين يبدو أن مهمتهم هي توجيه من ضلوا طريقهم، ومن الجلي أنهم لم يفلحوا في الحيلولة دون سعي أجيال من الزائرين لتخليد أسمائهم، عن طريق نقشها على الجدران. نوع المقال: عام