من الصعب تحديد حجم الفساد لأسباب لا تخفى على أحد، فمن البديهي جداً أن يعزف تماماً هؤلاء الضالعون فيه عن الحديث عن نطاق أنشطتهم الفاسدة غير المشروعة. ومما له دلالة كبيرة، أن المقياس العالمي الأشهر الذي يتم الاستشهاد به على أوسع نطاق، مؤشر منظمة الشفافية الدولية، ليس في واقع الحال إلا مسحاً لآراء المواطنين عن الفساد في بلدانهم، ولهذا السبب، أعتقد أن مسح المفوضية الأوروبية الجديد عن الفساد في أوروبا أكثر إثارة للاهتمام فيما يتعلق بما يكشفه عن وجهة نظر المواطنين عن الفساد. وترى «سيسليا مالمستروم»، مفوضة الشؤون الداخلية في الاتحاد الأوروبي، أن «نطاق المشكلة في أوروبا يثير الدهشة»، وهذا ما ود في مستهل تقديمها للتقرير الذي توصل إلى أن 76 في المئة من الأوروبيين يعتقدون أن الفساد واسع الانتشار في بلدانهم. وهناك نحو 25 في المئة من الأوروبيين يقولون إنهم يتضررون من الفساد في حياتهم الشخصية. وقال نحو ثمانية في المئة إنهم مروا بتجربة فساد أو شهدوا قضية فساد في الأشهر الاثني عشر السابقة. ويذكر التقرير أنه لا توجد دولة من بين الدول الثماني والعشرين في الاتحاد الأوروبي بغير فساد، وأن مشكلات الفساد تكلف اقتصاد التكتل ما إجماليه 162,2 مليار دولار في العام. ونتائج التقرير تضر بالصورة العامة للاتحاد الأوروبي، لكنها تضر بدول بعينها بشكل أكبر، خاصة الدول التي تعصف بها أزمات اقتصادية مثل اليونان ورومانيا وبلغاريا. التقرير يخبرنا أن الدول التي يعتقد فيها أن الفساد واسع الانتشار هي اليونان بنسبة 99 في المئة، وإيطاليا بنسبة 97 في المئة، وليتوانيا وإسبانيا وجمهورية التشيك بنسبة 95 في المئة، وفي الدنمارك، على النقيض، فإن نسبة من يعتقدون أن الفساد منتشر تبلغ عشرة في المئة فقط. اللافت أن الكثير من الناس الذين لم يمروا هم أنفسهم بالفعل بتجارب فساد، يبدو أنهم متأكدون إلى حد كبير من أن الفساد يمثل مشكلة خطيرة وواسعة النطاق في بلدانهم. وجاء في التقرير «في حالة المملكة المتحدة، يُتوقع أن خمسة أشخاص فقط من بين 1115 شخصاً يدفعون رشى، أي أقل من واحد في المئة، وهذه هي أفضل نتيجة في أوروبا برمتها. لكن المعلومات عن وجهة نظر المواطنين عن الفساد تبين أن 64 في المئة من البريطانيين الذين استطلعت آراؤهم يعتقدون أن الفساد واسع الانتشار في البلاد». وليس كل صور وتجارب الفساد يمر بها المواطن على المستوى الفردي الخاص. فمعظم الأميركيين أو على الأقل الذين لا يقودون سياراتهم بشكل دوري فوق جسر جورج واشنطن لا يمرون كثيراً بتجارب يتعرضون فيها لنماذج من الفساد الرسمي. لكن على أي حال، فإن معظم الأميركيين ليسوا سذجاً لأن يعتقدوا أن الفساد غير موجود في الحكومة بدرجة ما. والجسر المشار إليه هنا الذي يربط بين ولايتي نيويورك ونيوجيرزي تردد اسمه في تقارير صحفية باعتباره محور فضيحة فساد بعد أن أشارت تقارير في الآونة الأخيرة إلى أن معاوني حاكم ولاية نيوجيرسي الجمهوري كريس كريستي قد أغلقوا الجسر انتقاماً من رئيس بلدية ديمقراطي رفض تأييد كريستي في حملة إعادة انتخابه حاكماً للولاية، وأدت الفضيحة إلى استقالة اثنين من معاوني كريستي في ديسمبر الماضي. المواطنون في بريطانيا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وأستونيا وفرنسا لم يجانبهم الصواب كثيراً إذا قالوا إن الفساد موجود في بلدانهم. لكن من المعقول أن يتشكك المرء في أنهم يبالغون قليلاً في حجم المشكلة. وهذا على الأقل هو الحال بالتأكيد عندما يتحدثون عن أن الفساد «واسع الانتشار» في مجتمعاتهم وهم لا يقصدون الشيء نفسه الذي يقصده الناس في اليونان وإيطاليا أو أفغانستان وهايتي. وهذا لا يعني القول إنه لا يمكن استشفاف نتائج من قياس وجهات نظر المواطنين عن الفساد، لكن استخدام هذه النتائج لإجراء مقارنات من بلد إلى آخر يبدو مضللاً نوعاً ما. نوع المقال: مقالات أقتصادية الاتحاد الاوربى-شمال اسيا