ما فتئت مؤشرات الغضب والتوتر تتزايد حدّة بين القوتين الرئيسيتين في شرق آسيا. وهو ما قد يكون من شأنه أن يخلق متاعب جدية في المنطقة. وفيما يبدو وكأننا نحن الأميركيين غير آبهين بما يحدث هناك، إلا أن هذا سيشكل خطراً على مصالح الولاياتالمتحدة ذاتها. وتبدو المناوشات التي طفت على السطح أثناء انعقاد إحدى جلسات الجمعية العمومية لولاية فرجينيا، مضحكة بالنسبة لمعظم الأميركيين. ففي محاولة لإرضاء الناخبين الأميركيين ذوي الأصل الكوري، تقدم نواب ولاية فرجينيا الشمالية بمشروع قانون يلزم المؤسسات الحكومية بالإشارة في مطبوعاتها وخرائطها إلى أن «بحر اليابان» يُدعى أيضاً «البحر الشرقي» East Sea. وهو ما أثار استياء الحكومة اليابانية التي بدأت تعمل لإجهاض القانون المقترح. وقد يوحي هذا الكلام لأي أميركي عادي بطرح السؤال: وماذا يهمني أنا من هذا الجدل؟ ولكن، كما هي الحال في القضايا الخلافية طويلة الأمد، تكون لأسماء الأماكن عادة خطورتها وخاصة عندما يتعلق الأمر بالصين التي تتعاظم قوتها، وباليابان القوة الاقتصادية الكبرى، وأيضاً بحالة عدم وضوح الرؤية بشأن احتفاظ الولاياتالمتحدة بقوتها في شرق آسيا. وقد بدأت علامات التوتر تظهر قبل بضعة أيام عندما افتتحت الصين «قاعة الذكرى» التي تشبه متحفاً صغيراً لتخليد ذكرى الرجل الكوري الذي عمد عام 1909 لاغتيال رئيس سابق لوزراء اليابان في محطة «هاربين» للقطارات في الصين. واستنكر مسؤول ياباني قيام الصين بتخليد وتمجيد ذكرى رجل «إرهابي». وردّ مسؤول كوري جنوبي بارز على المسؤول الياباني بقوله: «لو كان آهن جونج- جيون إرهابياً، فستكون اليابان كلها بلد الإرهاب لأنها قامت بغزو الدول المجاورة لها وقتلت شعوبها بدون رحمة». ولا يبدو اختلاف قراءة دول المنطقة للتاريخ جديداً. ومن ذلك مثلاً أن كوريا وضعت صورة «آهن» على طابع بريدي من فئة 200 «وون» قبل بضع سنوات. وعمدت اليابان في مقابل ذلك إلى وضع صورة رئيس الوزراء المغتال «هيروبومي إيتو» على ورقة نقدية من فئة 1000 «ين». ومنذ وقت بعيد، طلبت كوريا من الصين أن تقيم معلماً لتمجيد العمل الذي قام به «آهن» في المكان الذي وقع فيه الاغتيال. وكل ما تغير بعد ذلك يتعلق بموقف الصين. فبعد سنوات من الرفض المهذّب للطلب الكوري، وجدت الحكومة الصينية أنها لن تخسر شيئاً لو عمدت إلى إقامة المَعلم حتى لو أدى ذلك إلى تصعيد التوتر بينها وبين اليابان. وبدوره قام رئيس وزراء اليابان «شينزو آبي» الشهر الماضي بعمل مماثل عندما زار أضرحة 11 يابانياً قتلوا أثناء الحرب العالمية الثانية ومنهم من وصفوا بأنهم «مجرمو حرب»، وكان «آبي» يعلم جيداً أن هذه الزيارة ستستثير غيظ كل من الصين وكوريا. وتعقيباً على هذه الأحداث المتسارعة، قال «دان توينينج» المستشار السابق في وزارة الخارجية الأميركية: «لقد عاد التنافس من جديد على زعامة آسيا». ومع ناتج محلي إجمالي يبلغ 8 تريليونات دولار سنوياً، تفوقت الصين على اليابان لتصبح هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم. إلا أن اليابان التي يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي 6 تريليونات دولار لا تحتل أيضاً مرتبة متأخرة كثيراً عن الصين. وقد قال «آبي» بكل وضوح إنه لا يعتقد أن اليابان ستتخلى للصين عن موقع الريادة في المجالات التكنولوجية أو العسكرية أو الاقتصادية. (من الجدير بالذكر أن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة يبلغ ضعف ناتج الصين). وفي بداية الشهر الجاري، قام كل من «آبي» ووزير خارجية الصين، بجولتين منفصلتين ومتزامنتين تقريباً في أفريقيا. وفي إشارة ضمنية إلى الصين، قال رئيس الوزراء الياباني أثناء جولته: «إن من السهل أن تأتي إلى هنا لتأخذ معك المواد الأولية وتقوم برشوة القادة ثم ترحل. نحن لا نريد أن نرى مثل هذه السياسة الاستعمارية الجديدة». ورداً على تصريح «آبي»، كتب سفير الصين في إثيوبيا مقالاً جاء فيه: «لقد أصبح شينزو آبي أكبر مثير للشغب في آسيا». وتتعلق نقطة التوتر الأكثر خطورة في الخلاف على سلسلة من الجزر الصخرية الصغيرة تقع شرق بحر الصين وهي الآن تحت سيطرة اليابان ويطلق عليها اليابانيون اسم «سينكاكو» وتطالب الصين بسيادتها وتطلق عليها اسم «دياويو». ولكن هذه المرة لا يتعلق الأمر بالخلاف على الأسماء، بل إن هذه الجزر تضم مصائد أسماك غنية وحقول بترول تحت مائية ويمكنها أن تتحول إلى بؤرة للصدامات الخطيرة بين البلدين وهو ما يعني الولاياتالمتحدة ذاتها باعتبارها الدولة الضامنة لأمن اليابان. ودعونا نتخيل الآن «سيناريو» يقوم فيه قارب صيد صيني بتجاهل تحذيرات حرس الشواطئ اليابانيين ليرسو في إحدى هذه الجزر غير المأهولة. وفي هذه الحالة سيحتجز اليابانيون الصيادين الصينيين لتسارع الصين إلى المطالبة بإطلاق سراحهم. وترفض اليابان الطلب فيبدأ تبادل إطلاق النار بما يدفع اليابان لأن تطلب من أميركا تنفيذ معاهدة الأمن المشترك الأميركية- اليابانية. ولا يبقى في هذه الحالة أمام الولاياتالمتحدة إلا أحد خيارين، فإما مواجهة الصين عسكرياً، أو إلغاء التحالف مع اليابان. وهما خياران لا يتصور تجرؤ أي رئيس أميركي على الخوض فيهما. وبالنسبة للولايات المتحدة، يتعلق الأمر في هذه الحالة بتحدٍّ تقليدي لإدارة التحالف بحيث يتم علاجه وفق الطريقة التالية: كن صلباً بما يكفي لمنع أي هجوم يمكن أن يقوم به عدو محتمل، ومن دون أن تورط نفسك بعمل من أجل دفع حليفك للقيام بسلوك متهوّر. ولا شك أن أفضل طريقة لتحقيق هذا الهدف هي التواجد في المنطقة عسكرياً. فإذا شعرت دول شرق وجنوب آسيا بأن في وسعها الاعتماد على الوجود العسكري الأميركي، فإن من المرجح أن تتحد مع بعضها بعضاً لمقاومة التهديدات الصينية للدول المجاورة، وستكون تلك الدول أقل تخوفاً من عصرنة القوات العسكرية اليابانية وهو ما تسعى إليه الولاياتالمتحدة. نوع المقال: الصين سياسة دولية الولاياتالمتحدة الامريكية