القول إنّ عام 2013 لم يكن عاماً طيباً لرئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، لا يفي الموضوع حقه . وعلى حدّ قول ملكة بريطانيا المعبّر في وصف عام ،1992 كان عام 2013 "عاماً فظيعاً" بالنسبة إليه . ففي مرتين، على مدار العام، اندلع العنف الموجّه ضدّ أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه، في شوارع المدن الرئيسية في تركيا . ويؤكد المسؤول السابق في البنتاغون، مايكل روبن، "إن هالة الحصانة التي أحاطت بأردوغان ذات يوم، تتبدّد" . وقد تكون الأحداث التي أثارت الاحتجاجات متنوعة، ولكن السبب الكامن وراءها يبقى واحداً في جوهره، وهو الاعتقاد بأن أردوغان بات ممعناً في الدكتاتورية، ومفرطاً في الانغماس في السياسات الإسلاموية للربيع العربي، ومغرقاً في العجرفة في محاولة إنهاء دور تركيا، كنموذج للعلمانية في العالم الاسلامي . وفي شهر مايو/ أيار، انفجر الغضب الشعبي عندما أعلنت الحكومة باقتضاب عن بناء مركز تجاري في حديقة "غزي"، وهي إحدى البقاع العامة الخضراء الأخيرة الباقية في وسط اسطنبول . وجاء الإعلان الذي تم من دون أي مشاورات عامة، كالشرارة في الهشيم، في يوم شديد الجفاف . فقامت منظمة صغيرة تطلق على نفسها اسم "منصة تقسيم" بمظاهرة عارمة، فتجمع الناس، وانتشرت القلاقل، وسرعان ما تطورت الاحتجاجات على صعيد وطني . وبدا واضحاً منذ الوهلة الأولى، أن الأسباب الكامنة وراء الاحتجاجات، تشمل إضافة إلى موضوع حديقة غزي، سلسلة واسعة من المظالم، منها فرض قيود على استهلاك الكحول، وسياسة الحكومة إزاء سوريا، ومذبحة "الودير" التي راح ضحيتها 34 قروياً كردياً، ومشاريع فاعلية الطاقة، والمحطات النووية، وازدراء حقوق الإنسان، بما في ذلك، الاعتقالات العشوائية لصحفيين، ومثقفين وناشطين . ومع تحول الصيف إلى خريف، بدا أن الاحتجاجات تتجه نحو الهدوء، ولكن، تحت السطح، كانت تتجمع معارضة أقوى وأخطر، داخل حزب أردوغان ذاته، حزب العدالة والتنمية . وتركز ذلك حول أتباع فتح الله غولِن، وهو رجل دين تركي ذو نفوذ واسع، يعيش في الولاياتالمتحدة . وكان غولِن ذات يوم، أحد كبار الزعماء الروحيين لحزب العدالة والتنمية، وهو ينادي بمزيج من الاعتدال، والتوفيق بين الإسلام وعالم الأعمال والمشاريع، مما ساعد على وصول الحزب إلى سدة السلطة . وقد نشأ نزاعه مع أردوغان وحزب العدالة والتنمية حول قرار الحكومة إغلاق شبكة المدارس الخاصة الواسعة، التي تديرها جماعة فتح الله غولِن، أو حركة حزمت (أي الخدمة)- حيث يعد ذلك مسألة حياة أو موت للحركة . ويوجد لغولن وحركته أتباع على مستويات رفيعة في المؤسسة التركية، بما في ذلك السلك القضائي، وجهاز الخدمة السرية، وقوة الشرطة . وقد استشاط أردوغان غضباً في أوائل ديسمبر/ كانون الأول، عندما اكتشف أن الشرطة، تقوم منذ أكثر من عام- ومن دون عِلمه- بإجراء تحقيقات سِرّية في الفساد داخل الحكومة، والأوساط العليا لحزب العدالة والتنمية- وتحديداً في عملية فساد وكسب غير مشروع تبلغ قيمتها ملايين الدولارات، ويتورَّط فيها عدد من الوزراء، وتشمل ضمن أمور أخرى، الرشوة في مشاريع بناء، ونقل أموال بصورة غير مشروعة إلى ايران، في صفقات مخالفة للعقوبات . وكانت أولى نتائج تحقيقات الشرطة، اعتقال 24 من الأسماء الكبيرة، ومن بينها أبناء وزراء في الحكومة، ومحافظ بنك هولبانك، المملوك للحكومة . وكان ردّ فعل أردوغان الفوري، وربما المعهود، اعتقال نحو 70 من ضباط الشرطة، بينهم رئيس شرطة العاصمة القوي، حسين تابكين، وإصدار أوامر لآخرين بإبلاغ المسؤولين في الحكومة بسير التحقيقات في الفساد . وهذا، كما يقول المنتقدون، سوف يتيح للمشتبه فيهم فرصة الاطلاع على ما يجري مسبقاً . وقد استعدى ردّ أردوغان المتطرف على ما يعتبره كثيرون تحقيقات شرطية مشروعة، كثيراً من الأتراك، وجعل المعارضة التركية العلمانية تعتبره دليلاً على أن أردوغان يمثل دكتاتورية بانتظار الفرصة المواتية، وأدى إلى استئناف المسيرات المناهضة للحكومة التي حدثت في الصيف . وقد شارك ألوف المتظاهرين المناوئين للحكومة في احتجاج في اسطنبول يوم 22 ديسمبر، فرّقته الشرطة بالغاز المسيل للدموع، وخراطيم المياه . وفي يوم الاثنين 23 ديسمبر حذر الاتحاد الأوروبي أردوغان، متهماً إياه بأنه ينتهك بصورة مباشرة قواعد الاتحاد الأوروبي التي تكفل استقلال القضاء، الأمر الذي يعتبر شرطاً أساسياً لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي . وكان من تداعيات التحقيق في الفساد حتى الآن، استقالة ثلاثة وزراء تم اعتقال أبناء لهم . وقد حثَّ أحدهم، وهو وزير البيئة أردوغان بيرقدار، أردوغان على التنحي كذلك، مشدِّداً على أن "نسبة كبيرة" من مشاريع البناء التي زُعم أنها مشوبة بالفساد، والتي تخضع للتحقيق، كانت نالت موافقة رئيس الوزراء ذاته . وقد وقعت هذه الدعوة على أذن صمّاء، حتى على الرغم من أن نجل أردوغان، أصبح في 27 ديسمبر، آخر شخصية رفيعة يَرد اسمها في تحقيقات الفساد التي تمضي في الاتساع . وبعد استقالات الوزراء، أجرى أردوغان تغييرات كبرى على مجلس الوزراء، وعيّن عشرة وزراء جدداً . وفي سلسلة من التصريحات التي تكاد تنم عن ارتياب مرَضي، وصف تحقيقات الشرطة بأنها "لعبة قذرة"، واتهم سفراء أجانب لم يذكر أسماءهم بالتآمر عليه في "تحالف مظلم"، وألمح إلى أنه قد يطردهم من البلاد، وادعى أن التحقيق التآمري برمته، كان مؤامرة حاكتها قوى أجنبية وتركية لتشويه سمعة حكومته، قبل الانتخابات المحلية في مارس/ آذار 2014 التي ستقرّر مصير طموحه إلى الاحتفاظ بالسلطة العليا في تركيا، بطريقة أو بأخرى . ومع انتهاء عام 2013 تعتمد طموحات أردوغان، وإلى حد ما مستقبل تركيا، على المدى الذي ستبلغه فضيحة الفساد . ولا يمكن القول الآن، إن تركيا تغلي، ولكنها تتجه نحو الغليان على نار هادئة . كاتب وصحفي بريطاني (موقع يوراسيا ريفيو) نوع المقال: سياسة دولية