تثير فضيحة تنصت وكالة الأمن القومي الأميركية في فرنسا مجموعة من الأسئلة المهمة والملحة: فهل من المقبول التجسس على بلد حليف؟ وهل تبرر محاربة الإرهاب كل الوسائل؟ إننا نرى بالفعل أنه تحت غطاء محاربة الإرهاب قامت الولاياتالمتحدة بالسعي لجمع معلومات من شأنها مساعدة شركاتها الوطنية المتنافسة مع شركات فرنسية وأوروبية على الأسواق الدولية. فهل يعني ذلك أننا دخلنا في مرحلة استراتيجية مختلفة منذ نهاية الحرب الباردة حلت فيها الحرب الاقتصادية محل التجسس الاستراتيجي؟ الأكيد أن الدول ليس لديها أصدقاء، وإنما لديها مصالح فقط، غير أنه إذا كان التجسس على الحلفاء ليس بالأمر الجديد، فإنه مذموم وغير مقبول. والواقع أنه ليس ثمة أي قطيعة حقيقية مع الممارسات الأميركية السابقة. ذلك أن الاستعلام أو التجسس بخصوص الحلفاء – حتى نتحدث بشكل صريح ودون تزويق – كان دائماً موجوداً، وهو لا يقتصر فقط على نشاط القوى العدوة أو المنافسة. فقد كان ذلك هو واقع الحال إبان الحرب الباردة. ذلك أن التحالف الاستراتيجي ضد الاتحاد السوفييتي لم يكن يتعارض مع تنافس اقتصادي بين الولاياتالمتحدة وحلفائها الأوروبيين والياباني. فالولاياتالمتحدة كانت تسعى دائماً إلى الاستفادة من وضعها ومكانتها كحامية لهذه الدول للحصول على مزايا وامتيازات اقتصادية. كما أنها كانت تحاول دائماً تبرير نشاطها التجسسي بمتطلبات المعركة الاستراتيجية، ساعية بالتوازي مع ذلك إلى محاباة ومنح الأفضلية لشركاتها على حساب شركات حلفائها. وبناء عليه، فهناك استمرارية واضحة في تصرف الولاياتالمتحدة وسلوكها، وما تغير اليوم هو حجم هذا النشاط، ذلك أن الوسائل التكنولوجية الجديدة الموضوعة رهن إشارتها هي التي تسمح بأنشطة تجسسية بحجم مختلف تماماً. ويمكننا أن نتساءل هنا حول فعالية وجدوى جمع كل هذا الكم من البيانات مقارنة مع ضرورة فرزها وتحليلها. غير أن التحالف، في الحرب ضد الإرهاب مثلما في الحرب الباردة، لا يمكن أن يعني الخضوع. ولذلك، يتعين على فرنسا أن تدافع عن نفسها من هذا التطفل الأميركي وعدم ترك شعور بالإفلات من العقاب قد يُؤوَّل على أنه خضوع وتشجيع على الاستمرار على نفس النهج، وذلك بعدما تم ضبطها بالجرم المشهود. ولكن، ماذا كان الفرنسيون سيقولون لو اكتشفوا بأن الروس أو الصينيين قاموا بنفس الأنشطة التجسسية التي قام بها الأميركيون ضد شركاتهم أو مواطنيهم أو سفاراتهم؟ لا شك أن الرد في هذه الحالة سيكون أكثر قوة، شأنها في ذلك شأن الاحتجاجات التي ستكون أكثر شدة، وخاصة في حال انكشفت هذه المعلومات في عهد بوش الإبن. والواقع أن لا أحد يستطيع أن ينكر أن أوباما رئيس أكثر انفتاحاً، وأكثر إيماناً بأهمية التنسيق والتعاون الدوليين، غير أنه يظل مع ذلك وفياً لتقاليد وطنية أميركية قديمة، ذلك أن عقيدة «القدر الواضح» (الاعتقاد بأن الولاياتالمتحدة «أرض مختارة» منحها الله كل القارة الأميركية الشمالية) تجعل الأميركيين يعتقدون بأن لديهم حقوقاً أكثر من الآخرين، باسم المصلحة العليا للدفاع عن الديمقراطيات التي يتبنونها. ولكن اللافت هنا هو أن رد فعل الفرنسيين، وعلى غرار بقية الأوروبيين، لم يكن متساوقاً مع الخطأ الذي ارتُكب، وإنما مع هوية المخطئ. إلى ذلك، يدل تصرف الأميركيين على الفكرة التي لديهم حول دورهم في العالم وحول العلاقات التي ينبغي أن تكون لديهم مع الحلفاء. فهم يرون أن منظومة قيمهم تمنحهم حقوقاً أعلى من البلدان الأخرى، بما في ذلك شركاؤهم الأقرب. وبمزيج من الصراحة والسخرية المطلقة، يقولون بعدم خطورة ما وقع. ومما لا شك فيه أننا لا نقصد مما تقدم الدعوة إلى قطع علاقة التحالف التي تربط بين فرنساوالولاياتالمتحدة؛ ذلك أن الفرنسيين يحتاجونها، وخاصة في ما يتعلق بتبادل المعلومات الاستخباراتية. غير أنه لا بد على الأقل من أن نُظهر أننا لسنا أغبياء ولسنا راضين. وعليه، فلماذا لا تطلق فرنسا سلسلة من المشاورات مع البلدان الأوروبية الأخرى التي عانت هي أيضاً من السلوك الأميركي، من أجل دراسة الطريقة الأمثل للرد على ذلك؟ ثم ما هي الخطوط الحمراء التي ينبغي تحديدها؟ الواقع أن ذلك سيمثل وسيلة ممتازة للدفع نحو سياسة أمن أوروبية مشتركة مازالت تجد صعوبة في رؤية النور. وخلاصة القول إنه إذا كان الأوروبيون يرغبون في أن يحظوا باحترام الولاياتالمتحدة، وكذلك احترام كل القوى الأخرى التي تتابع كل ما يجري باهتمام، فإنه لا بد من تحديد رد فعل مشترك يذهب إلى أبعد من بيان احتجاجي. نوع المقال: الولاياتالمتحدةالامريكية الاتحاد الاوربى-شمال اسيا