لم تفضِ المباحثات التي جرت الأسبوع الماضي بجنيف بين إيران والدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي بالإضافة إلى ألمانيا، إلى الاتفاق المرتقب بعد الاختلافات التي طفت على السطح والموقف الفرنسي الرافض للاتفاق. لم تشفع في ذلك الآمال العريضة التي صاحبت المفاوضات الأخيرة والأجواء الإيجابية التي صاحبت الوضع العام بعد صعود الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى السلطة. وحسب المراقبين وما رشح عن الاجتماعات في جنيف، فإن الموقف الفرنسي كان حاسماً في وقف التوقيع على الاتفاق النووي بين الغرب وطهران، وكانت التحفظات التي أبدتها باريس محورية في عدم الخروج بتفاهم حول البرنامج النووي الإيراني. بل إن البعض ذهب في تفسير موقف فرنسا الرافض للتوقيع على الاتفاق، برغبتها في إرضاء إسرائيل وحكومتها المعترضة على وصول الغرب لأي اتفاق مع إيران لا ينتهي بتحييد البرنامج النووي الإيراني كلية ووقف عملية التخصيب نهائياً. وكما هو الحال بالنسبة لجميع الشائعات والتكهنات، لا يخلو هذا التحليل من بعض المنطق والوجاهة. فلعلنا نذكر ما سبق أن صرح به وزير الخارجية الفرنسي السابق، برنارد كوشنر، من أن الموقف الفرنسي المتشدد حيال إيران يمثل إشارة جيدة تبعثها باريس إلى الدولة العبرية، لكن علينا أيضاً ألا نغفل عن الانقسامات الموجودة داخل وزارة الخارجية الفرنسية بين إدارة الوزارة المصممة بكل الطرق على منع الانتشار النووي والحازمة تجاه إيران، وبين مواقف أكثر اعتدالاً تبديها زمرة من الدبلوماسيين المستعربين الأحرص على التوازنات الإقليمية. ما يعني أن الموقف الفرنسي ليس نهائياً. ونتيجة لهذا الموقف الفرنسي المطالب بضمانات إضافية فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، كالت الصحافة الإسرائيلية صنوفاً شتى من الثناء والإشادة بفرنسا قبل أيام قليلة على الزيارة المرتقبة لأولاند إلى الدولة العبرية. كما أن جهات أميركية لم تكن معروفة من قبل بتحمسها للسياسات الديجولية الفرنسية، من أمثال السيناتور ماكين وصحيفة «وول ستريت جورنال»، انضمت هي الأخرى إلى جوقة المشيدين بالموقف الفرنسي الصارم إزاء طهران. لكن من جهة أخرى يبقى حصر تفسير رفض وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، إبرام الاتفاق النووي مع إيران في إرضاء إسرائيل، مبالغة تجانب الصواب، إذ يجب ألا ننسى أنه في الوقت الذي كان فيه قصر الأليزيه متردداً حيال دعم الخطوة الفلسطينية لدى الأممالمتحدة للحصول على وضع الدولة غير العضو، رمى الرجل بكامل ثقله وراء الجهود الفلسطينية، مقدماً لها كل الدعم الدبلوماسي الذي انتهى بتصويت فرنسا لصالح القرار، الأمر الذي أثار حفيظة إسرائيل. وإذا كان وزير الخارجية قد آثر هذه المرة لعب ورقة التصلب في وجه طهران، فذلك لأسباب ودوافع تتجاوز إسرائيل. فإلى جانب الذكريات المؤلمة لفابيوس مع إيران عندما كان رئيساً للحكومة في الفترة بين عامي 1984 و1986، مثل قضية الرهائن الفرنسيين في لبنان، يبقى العتب الرئيسي لفرنسا هو إيران المساندة القوية التي تقدمها طهران للنظام السوري الذي تأمل باريس في إسقاطه. لكن الأهم من هذه الاعتبارات المتعلقة بالوضع الإقليمي وموازين القوة، تبدو فرنسا أحرص على تقديم إيران لضمانات جدية لمنع عسكرة البرنامج النووي، وهو موقف يجد له صدى إيجابياً لدى دول الخليج العربي المتوجسة من نوايا إيران وبرنامجها النووي. ولعل هذا الرفض الفرنسي والتأكيد على الضمانات، مردهما أيضاً إلى الرغبة الملحة لدى باريس في تسهيل الوصول إلى اتفاق في المستقبل من خلال جعل أي تفاهم قابلاً للتسويق في الخارج والدفاع عنه، لاسيما لدى الكونجرس الأميركي المعادي لطهران. وكأن فرنسا بهذه الخطوة تحاول أن تقول بأن الاتفاق الذي سيوقع مستقبلاً ليس وليد التسرع الغربي ولا نتيجة ضعف القوى المفاوضة لطهران الراغبة في إغلاق ملفها النووي بأي ثمن، بل جاء بعد تمحيص للضمانات المقدمة ووفق شروط مشددة تحد من البرنامج النووي الإيراني، بحيث سيصبح من الصعب على مناوئي الحوار مع إيران القول إن الغرب اندحر أمام الإيرانيين. لكن بعد عشر سنوات من المفاوضات مع إيران، والإخفاق الحالي في التوصل إلى اتفاق، لم يعد هناك من مجال لإهدار مزيد من الوقت، لاسيما بعد تحديد 20 نوفمبر الجاري كموعد لاستئناف المفاوضات. ولابد أيضاً من استغلال مرحلة الانفتاح التي أظهرتها طهران في الفترة الأخيرة لإنهاء الخلاف بالنظر إلى البدائل القليلة المتوافرة حالياً. فأي فشل في استمرار المفاوضات وعودة الانسداد للأفق السياسي، سيساعد القوى المحافظة في إيران على الرجوع مجدداً بخطابها المتشدد، ورغبتها ربما في امتلاك السلاح النووي، مع خطاب غربي مواز يهدد بإشعال نيران الحرب. هذا فضلاً عن الاعتبارات الاقتصادية التي تحرك الموقف الفرنسي، فقد كان فابيوس أحد مؤسسي الدبلوماسية الاقتصادية، وهو لذلك حريص على ضمان حصة الشركات الفرنسية في السوق الإيرانية الواعدة. فالعقوبات، وإن كانت تشل الاقتصاد الإيراني وتضغط على القادة السياسيين، إلا أنها أيضاً تضر بالشركات الفرنسية الراغبة في اقتحام السوق الإيرانية. وإذا كانت إسرائيل رافضة تماماً لفكرة التوافق مع إيران، فإن الأمر يختلف مع فرنسا التي لديها أسباب خاصة بها تدفعها للحرص وليس الرفض. وفي حال استطاع الغرب التوصل إلى اتفاق خلال الجولة القادمة من المفاوضات، ستكون فرنسا قد كسبت رهانها ليبقى على الدول المفاوضة فتح آفاق جديدة أمام إيران تدفعها للتخلي عن الجانب العسكري من برنامجها النووي على نحو نزيه وشفاف. نوع المقال: سياسة دولية