كشفت نتيجة الاستفتاء على الدستور المصري النهائية بنسبة حوالي 64%، أي ما يقرب من ثلثي عدد الناخبين الذين شاركوا في الاستفتاء، وهي نتيجة جيدة في ظل تلك الظروف التي تمر بها البلاد، ولكن لا يمكن قراءة هذه النتيجة ببساطة، على أنها تأييد أو رفض للدستور الجديد فقط، بل ثمة أمور كثيرة متداخلة، يصعب التفريق بينها بل يستحيل في بعض الأحيان. يمكن تقسيم الناخبين الذين صوَّتوا على ذلك الدستور إلى 4 أقسام رئيسة؛ قسم يعتبر أن هذا الدستور كافٍ جدًّا، وأنه معبر حقيقةً عن مطالب الثورة وإرادة الشعب المصري، وهو يتمثل أساسًا في جماعة الإخوان المسلمين وقطاع من الدعوة السلفية، بالإضافة إلى أحزاب الوسط والحضارة وغيرها من القوى التي شاركت في إعداد ذلك الدستور واستمرت في الجمعية التأسيسية حتى النهاية. القسم الثاني ومنه من يرى أن هذا الدستور به بعض العيوب، وهذا القسم لم يوافق على الدستور حقيقة، بقدر رغبته في الإسراع ببدء مرحلة جديدة، يتم فيها استكمال مؤسسات الدولة سريعًا، للخروج من حالة الفوضى والعبث التي نعيش فيها منذ فبراير 2011، وصولاً إلى مرحلة الاستقرار السياسي والاقتصادي واستتباب الأمن، ثم يمكن النظر في تعديل الدستور عبر البرلمان مستقبلاً، معتبرًا أن رفض هذا الدستور يعني الدخول في دوامة من الخلاف السياسي والفوضى، قد لا تقل مدتها الزمنية عن عام، وما يستتبعها من تداعيات اقتصادية خطيرة، وفي ذات الوقت ربما لا يرقى الدستور الذي سيعد حينها إلى مستوى الدستور الذي بين أيدينا، ويتمثل هذا القسم في الكثير من أبناء التيار الإسلامي، وأبناء الشعب المصري بصفة عامة في كافة أنحاء البلاد. القسم الثالث وهي القوى العلمانية التي ترى هذا الدستور لا يعبر عن طموحها ولا أفكارها بل سيكون قيدًا على ما تدعو إليه من حريات مطلقة، بالإضافة إلى فلول النظام السابق التي سيطبق عليها قانون العزل السياسي، كما أن كلاًّ من القوى العلمانية والفلول لا يريدون الوصول إلى حالة الاستقرار التي تمكن الرئيس من العمل وإظهار الإنجازات، حيث تراهن على استمرار نفور المواطنين من التيار الإسلامي والرئيس، على أمل أن تأتي الانتخابات القادمة بشخصيات من خارج التيار الإسلامي. أما القسم الرابع، وهو قطاع لا يستهان به، وهو يشكل النسبة الأكبر بين الرافضين للدستور، وهم الكثير من عوام الناس، ممن تأثروا بوسائل الإعلام، والدعاية السلبية للدستور، أو ساءهم ما يفعله بعض أبناء التيار الإسلامي، أو فقدوا الأمل في الرئيس محمد مرسي وحكومته وقدرتهما على المضي قدمًا بالبلاد، وتخفيف الضغوط الاقتصادية والأعباء المادية التي أثقلت كواهل الشعب المصري، وازدادت خلال الأشهر الماضية. نتيجة الاستفتاء إذن لم تكن تأييدًا مطلقًا للإسلاميين ولا للرئيس محمد مرسي، بل كانت رغبة في إعطائه الفرصة لتنفيذ وعوده وتحقيق المطالب الشعبية والأهداف القومية، وهو ما يتطلب جهدًا كبيرًا من الرئيس محمد مرسي، ومن الجماعات والتيارات الإسلامية بصفة عامة، وجماعة الإخوان المسلمين بصفة خاصة. يجب على الرئيس محمد مرسي بشكل عاجل تشكيل حكومة جديدة، تتولى إدارة البلاد خلال الفترة القادمة، حكومة قوية ونشيطة ولها تأثير ملحوظ، من ذوي الكفاءة والخبرة، تحسم الوضع الأمني المتدهور والفوضى التي تشهدها البلاد، حكومة تستطيع مواجهة حالة الفلتان التي تشهدها مؤسسات الدولة والتي أدت إلى غياب وتدهور في طبيعة الخدمات والحاجات الاجتماعية الشعبية، مثل رغيف الخبز والبوتاجاز، ومواد التموين، ومواجهة الارتفاع الملحوظ في أسعار السلع والخدمات، وهي الأمور التي أثقلت كاهل المجتمع، وتعيد النظر في القرارات الاقتصادية الأخيرة التي اتخذتها الحكومة الحالية تم إيقافها، لأنه من شأنها إحداث أزمة كبيرة بالبلاد، قد تتبعها احتجاجات عارمة على غرار ما حدث بالأردن، كما تكون مسئولة عن مواجهة حالة الفلتان الإداري، التي تسببت في العديد من الحوادث الدامية التي شهدتها البلاد خلال الفترة الماضية، مع ضرورة اختيار محافظين أكفاء، يتحملون مسئولياتهم في توفير الاحتياجات اليومية للمواطنين وتقديم الخدمات بالمستوى المطلوب. ولقد بات من الواجب أيضًا على الرئيس محمد مرسي إعادة تشكيل مؤسسة الرئاسة وفق أسس جديدة، خصوصًا بعدما تبين ضعف التشكيل السابق، بحيث تضم أهل الخبرة والتجربة العملية، من غير الحالمين ولا الغارقين في المثاليات النظرية، وينبغي أن تكون هذه المجموعة متجانسة في الخط السياسي، حتى يتحملوا جميعًا وسويًّا مسئولية اتخاذ القرار مع الرئيس، على أن تكون مدركة لطبيعة المنصب السياسي الرفيع والفرق بينه وبين المنصب الأكاديمي أو الإداري، كما يجب النظر في عملية اتخاذ القرار داخل المؤسسة، وتحديد الجهات المسئولة مع الرئيس في اتخاذ القرارات وتلك التي يكون دورها استشاري فقط، وكذلك توزيع المهام على الفريق الرئاسي، حتى يسهل على الرئيس متابعة كافة الأمور في الدولة من خلال فريقه، بدلاً من حالة الفوضى والارتباك التي شهدتها مؤسسة الرئاسة خلال المرحلة الماضية. الأمر الثالث الذي يجب على رئيس الجمهورية فعله، هو إصدار الأوامر لأجهزة الدولة الأمنية والاستخبارية بالكشف عن تفاصيل المؤامرة التي تحدث عنها الرئيس وجماعة الإخوان المسلمين، وقتل بسببها عشرة من المواطنين، وحدثت بسببها أحداث الاتحادية الدامية وما تبعها من أحداث وحرق مقرات، ويجب تقديم كافة المتورطين فيها أيًّا كانت أسماؤهم أو مناصبهم سواء في الداخل أو الخارج إلى المحاكمة، وإلا فإن الرئيس وجماعته سيفقدون مصداقيتهم لدى أنصارهم أولاً، ولدى الشعب ثانيًا، وسيتمادى المحرضون المتآمرون في أعمالهم، ظانين أن عدم محاكمتهم دليل على ضعف الدولة وعدم توفر الأدلة الكافية لإدانتهم أمام جهات التحقيق. وبالتوازي مع ذلك، يجب على التيار الإسلامي بصفة عامة وجماعة الإخوان المسلمين بصفة خاصة عدم الاغترار بنتيجة الاستفتاء، بل عليهم قراءاتها بالطريقة الصحيحة، وأن ثمة تراجعًا كبيرًا في نسبة المؤيدين لهم، وأن ثمة تصويتًا عقابيًّا كبيرًا ضد الدستور بسبب أخطاء وتصرفات بعض الإسلاميين، وبعض التصريحات المستفزة من قبل بعض الأشخاص منهم، وبالتالي يجب النظر في كل تلك الأخطاء، ومحاسبة المخطئين، لتحسين صورتهم أمام الشعب المصري، وإزالة ما لحق بهم من شوائب وعوالق. ويجب على الإسلاميين في مصر كافة صياغة خطاب إعلامي وسياسي جديد خلال الفترة القادمة، ينطلق أساسًا من ملامسة حاجات المجتمع المصري البسيط وأولوياته محل الاتفاق بين جميع أطياف المجتمع، وعلى رأسها المتطلبات الاقتصادية والخدمية والحاجيات اليومية، والتأكيد على المطالب الأساسية للثورة والمجتمع "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية" عبر برنامج عملي وليس مجرد شعارات براقة، يشعر فيه المواطن بأن التيار الإسلامي وفي القلب منه الحزب أو الجماعة الحاكمة تشعر حقيقة بمدى ما يواجهه من صعوبات وتحديات. إن إهمال التيارات الإسلامية وتجاهلها للبندين السابقين ستكون نتيجته الحتمية استمرار التراجع في شعبية التيار الإسلامي والرئيس المنتخب، وسيكون ذلك واضحًا جدًّا في الانتخابات التشريعية المقبلة، والتي هي وفقًا للدستور الجديد في غضون شهرين من الآن، ولذلك يجب الاستعداد لتلك الانتخابات عبر مد جسور التواصل مع كافة فئات المجتمع، مع التركيز على المناطق التي ظهر فيها تراجع أكبر في شعبية الإسلاميين. وتعتبر نتيجة ذلك الاستفتاء تحذيرًا شديد اللهجة إلى الإسلاميين أن الفرقة والاختلاف في المرحلة المقبلة ستكون عواقبه وخيمة عليهم، فيجب عليهم التمسك بوحدتهم التي ظهرت خلال الفترة الماضية، فهي صمام أمان وجودهم على الساحة السياسية بقوة في ظل تلك الظروف، وخاصة ونحن على أعتاب انتخابات تشريعية جديدة، يسعى الجميع فيها للتوحد لمواجهة الإسلاميين كافة. وفي الختام، ينبغي الإشارة إلى ضرورة وضع حدود فاصلة واضحة بين مؤسسة الرئاسة وبين جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسية حزب الحرية والعدالة، فثمة تخوف لدى المواطن من ذلك التداخل الذي ظهر في عدة مواقف، فلا يصح أن يعلن بعض قادة الجماعة عما ينوي الرئيس فعله، ولا القرارات التي ينوي اتخاذها، فإن ذلك يسحب من رصيد الرئيس لدى المواطن البسيط، ويشعره وكأنه يتلقى الأوامر من هذه الجهة أو تلك، وليس هو صاحب القرار الرئيس في البلاد، وهو أمر ذو عواقب سيئة، نأمل أن يتم الانتباه له جيدًا.