لسنوات طويلة اعتنق الإسرائيليون نظرية الردع وانتهجوها كسياسة ثابتة في علاقتهم مع قطاع غزة، وملخص الفكرة أن سكان غزة لو ذاقوا الألم وعانوا البطش فإنهم سيمتنعون عن مهاجمة إسرائيل... لكن هذا النوع من الردع الاستراتيجي لا يمكن له النجاح، فبدلاً من الإحجام عن استهداف إسرائيل تكون ردة فعل الغزيين أمام الألم والعنف الذي تمارسه عليهم إسرائيل التمسك أكثر بالمقاومة ورغبة أشد في رد العنف بمثله، والأكثر من ذلك أن الردع الإسرائيلي من دون إمكانية التسوية السياسية ستضمن استمرار العبث في المنطقة وتفاقم العنف. وفي توضيحه لنظرية الردع الإسرائيلية قال «موشي يعلون»، وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، خلال الأسبوع الماضي «إذا لم توقف التنظيمات الفلسطينية إطلاق النار، سنتشدد أكثر في ردود فعلنا حتى يقول الفلسطينيون كفى»،وفي سياق الردع نفسه، أعلن وزير الداخلية الإسرائيلي أن الهدف هو «إعادة قطاع غزة إلى القرون الوسطى»؛ والحقيقة أنه ليس مستغرباً أن تكون هذه القسوة هي ما يحرك الساسة الإسرائيليين فقد استخدموا خلال الهجوم الأخير على القطاع ترسانتهم العسكرية الهائلة وتفوقهم الاستراتيجي في مجال الأسلحة لقصف غزة جواً وبراً وبحراً، لتكون النتيجة سقوط أكثر من مائة مدني في القصف بمن فيهم أطفال عزل، كما أن تسعة قتلى ممن سقطوا ينتمون إلى عائلة «الدالو» في غزة التي قُصف منزلها بصاروخ إسرائيلي دمره وقتل الجميع. ومع أن إسرائيل تقول إن هدفها هو ضرب من يطلق الصواريخ، إلا أن الطريقة التي هاجمت بها القطاع تضمن استمرار العداء لها في صفوف الفلسطينيين وستؤدي إلى ظهور مقاتلين جدد مصممين على مهاجمتها. وبالنسبة للفلسطينيين يأتي إطلاق الصواريخ كرد فعل طبيعي على الحصار البري والحصار البحري الذي يطوق غزة منذ 2007، ومع أن قتل المدنيين على الجانبين لا يمكن التسامح معه، وأن الفلسطينيين أطلقوا بالفعل صواريخ استهدفت البلدات والمدن الإسرائيلية في الجنوب، إلا أن الهجمة الأخيرة لإسرائيل على قطاع غزة كانت غير متوازنة بحيث استهدفت المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، كما أن المدنيين لا مكان لهم يهربون إليه في ظل الواقع الجغرافي للقطاع، ثم إن تصاعد العنف وتجدده بين إسرائيل وغزة بعد كل مرة تقول فيها إسرائيل إنها حققت الردع يدل على فشل سياستها وإخفاق نظرية الردع كلياً، هذا في الوقت الذي يؤدي سقوط المدنيين في القصف الإسرائيلي إلى تجذر الحقد والكراهية التي تدفع بدورها إلى مزيد من العنف والرغبة في الانتقام. ولعل ما يجعل من سياسة الردع الإسرائيلية مشروعاً فاشلاً هو غياب خطة متكاملة ذات أبعاد سياسية، فبرفضها التعامل السياسي مع من يتولى الحكم في غزة تحصر إسرائيل نفسها في نطاق الحل العسكري لمشكلة لا يمكن حلها دون تسوية سياسية، فأحمد الجعبري، القيادي في كتائب القسام الذي اغتالته إسرائيل، كان هو من سلم الجندي جلعاد شليط إلى مصر في إطار اتفاقية بين الطرفين، كما كان يدرس رده على وثيقة لتثبيت الهدنة بين «حماس» وإسرائيل قبل أن يأمر نتنياهو باستهدافه، واضعاً نصب عينه الانتخابات القادمة، ومع أن انغلاق الأفق السياسي أمام الفلسطينيين وابتعاد فرص التسوية العادلة تنعدم المحفزات لوقف إطلاق الصواريخ، هذا الغياب التام للحل السياسي هو ما دفع السلطة الفلسطينية إلى التوجه نهاية الشهر الجاري للأمم المتحدة طلباً لدولة غير عضو في الجمعية العامة مع ما للتوقيت من رمزية دالة، حيث يصادف الطلب ذكرى القرار الأممي بتقسيم فلسطين، وهو القرار الذي استقبله اليهود بترحيب بالغ لأنه يضمن لهم دولتهم القومية في حين تواصل رفضها حتى اليوم منح الفلسطينيين الفرحة ذاتها.