تبذل الأم كل ما تملك من وقت وجهد وأعصاب ودعاء ومال وكل شيء من أجل صلاح أبنائها وسعادتهم، وتقف كالأسد أمام كل من يعترض طريق نجاحهم وسلامتهم، ولكنها لا تتخيل أنه في كثير من الأحيان لا يسد أفق السعادة والنبوغ والتميز أمام فلذات أكبادها إلا حمار.. وليس أي حمار، إنه حمار جحا الذي لا يكاد يترك ابنًا أو ابنة إلا ويقف أمامهم بعناد وغباوة، يعوق ببلادته ذكاءهم، ويحطم بتفاهته أحلامهم الكبيرة. ومن منَّا لا يعرف القصة الشهيرة لجحا وحماره وابنه؟! تبدأ القصة عندما خرج جحا مصطحبًا ابنه ..ممتطيًا حماره ليذهبا إلى السوق، وبينما هو يمشي نظر إليه الناس شذرًا واحتقارًا، فاندهش جحا غاية الدهشة، وقبل أن يسألهم عن سبب نظراتهم، سمعهم يقولون: يا للأب القاسي!.. يركب على الحمار ويترك ابنه الصغير ماشيًا أجهده التعب، وأعياه النصب.. وجد جحا كلامهم معقولا خاصة مع حالة الاحتقار والنبذ التي غمروه بها، فلم ينظر لابنه ليرى أنه غير متعب أبدًا، وليدرك أنه سعيد بمشيه في بداية الرحلة، ولكنه استجاب على الفور لضغط الناس، ونزل عن الحمار وأركب ابنه، وسارا في الطريق إلى السوق.. فهل سلم جحا من نظرات الناس وهمساتهم الساخرة المعترضة؟ ليس بعد.. فقد رماه الناس بنظرات سلبية أيضًا، نظروا إلى الولد باشمئزاز، وإلى الأب بشفقة واستخفاف.. فتبلبل دماغ جحا، وأعجزه التفكير عن معرفة سبب الرفض هذه المرة، ولم يلبث طويلًا حتى سمعهم يقولون: ولدٌ عاق.. وأبٌ ضعيف، كيف يركب الابن على الحمار، ويمشي الأب؟.. يا للعقوق!.. يا للجحود!.. يا للاستضعاف والمهانة!..فسد الناس وخربت الاخلاق.. على الدنيا السلام.. وتحت هذا الضغط والشعارات الرنانة والأحكام الفظيعة، وقف جحا حائرًا.. حتى بدت له الفكرة التي سترضي الجميع – حسبما ظن المسكين- فقرر أن يركب هو وابنه على الحمار ليستريحا ويريحا.. ومضى في طريقه الذي تعطل طويلًا نتيجة للوقوف المتكرر ومراقبة المارة والجالسين، وبينما هو في طريقه حتى رأى الناس من حوله يضربون كفًا بكف، يحوقلون ويسترجعون، وتكاد أعينهم تبكي من شدة الألم، ترمقه النظرات الحادّة الحانقة مجددًا.. فانهارت أعصاب جحا وأعصاب ابنه وحماره! وسألهم هذه المرة مباشرة: ما بكم؟.. ماذا يغضبكم الآن؟! فقال له رجل كبير: هل مات ضميرك وضمير ابنك إلى هذا الحد؟.. ألم تعرفوا الشفقة والرحمة يومًا؟. حدق إليه جحا فاغرًا فاه، لا يفهم شيئا مما قال، فتابع الرجل: طبعًا أنت لا تفهم يا قاسي القلب، يا عديم الرحمة، أنت وابنك تركبان فوق هذا الحمار الضعيف النحيف؟.. لماذا لا تتناوبان عليه بدلًا من إثقاله بكما معًا؟، ألم تسمعا عن الرفق بالحيوان؟، ألم تعلما أن "الراحمون يرحمهم الرحمن"؟.. تأثر جحا بكلام الرجل وكاد أن يبكي على حال حماره ويحمله على كتفيه بدلا من أن يركب عليه، حاول أن يشرح للرجل أن طريقة المناوبة فشلت، ولم تعجب الناس الذين مرَّ بهم في طريقه أيضًا.. ولكن الرجل لم يمهله، بل تركه بعيدًا وهو يردد: حسبنا الله ونعم الوكيل. نزل جحا وابنه من على الحمار فورًا، وسارا إلى جوار الحمار وقد أعيتهم الحيل، وأعجزهم الوصول إلى السوق، فنظر جحا إلى ابنه وحماره، ثم ابتسم بسمة الظافر المنتصر، وقال لابنه: لا بأس.. فلنمشي ثلاثتنا جنبًا إلى جنب، وقال لحماره الحائر: لن نرفق بك فحسب.. بل سنمنحك المساواة! وتخيل جحا كيف سيعجب به الناس، ويثنون على حكمته ورأفته.. فهل نال جحا بغيته؟ لم يمضِ وقت طويل حتى فوجئ جحا بوابل من الضحك والسخرية، فالناس ينظرون إليه فلا يتمالكون أنفسهم، يستلقون على القفا من شدة الضحك، وينبه بعضهم بعضًا إلى هذا الأحمق الأبله، الذي يسير هو وابنه إلى جوار حماره، وظلوا يرشقونه بعباراتهم المتهكمة التي لا ترحم: "لماذا تشتري حمارًا يا أبله ما دُمت لا تركبه ولا تنتفع به؟".. "من المؤكد أنكما ستحملانه عن قريب يا حمقى". وعندها وصل جحا إلى نهاية التحمل، ونظر إلى ابنه قائلا: "يا بني.. إن إرضاء الناس غاية لا تدرك". هل يربي الناس أبناءك؟ السؤال الذي يجب أن يسأله كل مربي لنفسه هو: إلى مدى يشبه حاله في تربيته لأبنائه حال جحا مع ابنه وحماره؟، هل يتأثر بكلام الناس على الفور؟، هل يسعى لإرضاء الناس بأي ثمن؟، هل يخاف من انتقاداتهم؟، هل ينتظر موافقتهم ليعلم أنه على حق وصواب؟.. ولأنه كما توصل جحا أخيرًا فإن إرضاء الناس غاية لا تدرك، فإن من يجعل رضا الناس هدفًا في تربيته لأبنائه، ويرتعب من نقدهم أو رفضهم وسخريتهم، فإنه لا يحقق شيئا، ولا يدع أبناءه يحققون شيئا، فحياته واختياراته تتقلب تبعًا لأهواء من حوله واختلافهم، فهو يجعل فيهم شركاء متشاكسون، بدلا من رجل سلمًا لرجل. ابنك نحيف.. ابنك بدين حدثتني إحدى الصديقات عن تجربة لها تشبه تجربة جحا وحماره، فقد كان ابنها كثير اللعب قليل الميل إلى الأكل، ولكنه يتمتع بقوة وصحة جيدة رغم نحافته، ولكنها لم تسلم من الناصحات في كل مكان.. في المواصلات العامة، في المسجد.. في النادي.. بين العائلة، ينظرون إلى الولد بتحسر، ويقولون لها: لماذا تتركيه هكذا؟.. وتبدأ النصائح التي تحمل رسائل خفية تتهم الأم بالإهمال.. من قبيل: ( أعدي له الطعام الذي يحبه)..( نفسية الطفل السيئة تؤثر على شهيته).. وحتى لا تتهم بأنها لا تهتم، أو بأنها تسيء إلى ابنها فيعزف عن الطعام، بدأت تعطه فاتحًا للشهية، وتدخل معه في معارك يومية تفتح فيها فمه بالإكراه لتدس الطعام دسًّا.. ولم تمض أشهر قليلة حتى أصبح ابنها سمينًا مكتنزا.. لا يلعب ولا يجري كما كان في السابق، فهل نالت الرضا، وسلمت من الانتقاد؟! على الإطلاق.. فقد عادت الناصحات المتذمرات الفضوليات من جديد: (حرام عليك ابنك.. البدانة في الصغر هذه مصيبة ستؤثر عليه طوال حياته، لا بد أنه يعاني من مشكلة نفسية أو خلل في إحدى الغدد، ابدئي معه حمية على الفور). ندمت صديقتي أشد الندم على قهر ابنها لمجرد آراء الأخريات وفضول كلامهن.. وتعلمت ألا تتأثر بكل رأي ونقد غالبا ما يكون أتفه من مجرد سماعه وتذكره، فالناس يرون جانبًا واحدًا، بينما ترى الأم الصورة الكاملة. صراع الأطباء حكاية حمار جحا لا تقتصر فقط على غير المختصين، بل إنها تتعداهم إلى من يظن بهم الرأي النهائي السديد.. فعندما شعرت هذه الأم بأن ابنتها غير منطلقة في الكلام بما يتناسب مع سنها، قرأت وبحثت عن الأسباب، وأصبح لديها ثقافة جيدة حول مشكلات الأطفال والحالات الخاصة ونحوها، ثم لجأت فورا إلى المختصين، وذهبت إلى مستشفى كبير، يستضيف "دكتورة" سمعت عنها المهارة والخبرة، فما كان منها إلى أن شخصت الصغيرة بأنها مصابة بالتوحد، وأنها تحتاج إلى مجموعة من الاختبارات التي ستكلف مبلغًا كبيرًا، فاستغربت الأم وراجعتها في بعض الأمور التي لا تنطبق على الطفل التوحدي، فتراجعت "الدكتورة" وقالت أنها تقصد: "طيف التوحد".. ولم يكن لديها دليل سوى أن البنت كانت تغني لنفسها! ولارتياب الأم بحثت عن "الدكتورة" بشكل دقيق فاكتشفت أنها ليست طبيبة، وإنما هي طالبة ماجيستير في كلية آداب علم النفس، ورغم ذلك وضعت قبل اسمها اختصار ( د.).. على اعتبار الحلم الذي سيتحقق بمشيئة الله! ذهبت الأم إلى طبيب شهير فتغير التشخيص وأكد على أن الصغيرة أبعد ما تكون عن التوحد، ووصف لها دواءًا أنهكها وأظهر مشكلات نفسية لديها، فغيرت الطبيب إلى آخر فما كان منه إلا أن شتم من قبله مؤكدًا على أنه لا يفهم شيئًا.. وأن الطفلة لا تحتاج إلا إلى تنمية للمهارات وتكثيف للحديث معها دون العبث بجهازها العصبي! كيف نتعامل مع كلام الناس؟ ليست المشكلة في الاستماع إلى نصائح الآخرين، وليس المطلوب هو ضيق الأفق في تربية أبنائنا وعدم التمتع بالمرونة لتغيير الأخطاء، والاستفادة من التجارب، وليس الصحيح أن نتصلب حول آرائنا ولا نقبل التوجيه، فهذا من الكبر المقيت الذي هو بطر الحق وغمط الناس. ولكن مشكلة جحا وحماره، وهي المشكلة التي تواجهنا كل يوم في حياتنا، وتكون أكثر فداحة في تربية الأبناء، هو غياب العقلية النقدية، التي تجعلنا نراجع كلام الآخرين ونتوثق منه ونقارنه بغيره، والأهم هو أن ننظر في مدى ملائمة النصائح لصغارنا فنحن أعلم بهم من غيرنا. المشكلة هي حالة الانهزام أمام النقد والخوف من تعليقات الناس وكأنها قاتلة.. وهي مجرد كلمات قد لا يعي صاحبها ما يقول! المشكلة هي أن نجعل أبناءنا فئران تجارب، ونعوِّدهم على الاستسلام أمام الضغط المجتمعي مهما خالف مبادئنا وأهدافنا، وإذا كانت بعض العلوم يبدأ صاحبها مقلدًا ثم يرقى إلى متبع قبل أن يصل إلى مراتب الاجتهاد، ففي تربية الأبناء لا يجوز أبدًا أن يقف الآباء والأمهات في خانة التقليد، لا بد أن يكونوا على الدوام مجتهدين، ينظرون في الكلام والآراء، ويستنبطون منها ما يناسب واقعهم، ويطوعون ما يقرؤون ويسمعون ويلمسون حولهم ليعين الأبناء على الوصول إلى أحلامهم، بدلا من أن يحطموا هذه الأحلام تحت أقدام النقد والتدخل والاعتراض، ففي كل مرة اعترض الناس على جحا كان بإمكانه أن ينظر في مدى صحة كلامهم، ويراجع مبادئه الشخصية وظروفه، بدلا من أن ينهزم أمام ضغطهم ويسعى فقط لإرضائهم.